قضايا وآراء

عن تحرير حلب والتدرج في المواجهة: من سيخطئ أولاً؟

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

هل بات منبر الأمم المتحدة أشبه بـ«سوق عكاظ»؟ ربما حتى لا يجوز مقارنتها بهذا السوق الشعري الذي بصم فيه الكثير من الشعراء، تحديداً أن المشاركين بـ«سوق عكاظ» كانوا حريصين أن تكون أشعارهم بليغة ورصينة، وإلا فسيكونون عرضةً للسخرية من النوابغ والمحكّمين. أما منبر الأمم المتحدة فبات أشبه بفصول متقطعة من الكوميديا السوداء، يجلس أمامها ما تبقى من صادقين في هذا العالم ليتابعوا بحسرة الدرك الأسفل من الكذب والنفاق الذي وصل إليه من يدّعي الحرص على السلام والأمن العالميين، وحق الشعوب وسيادة الدول.
هل نبدأ مع الأمير الحقيقي لتنظيم «النصرة» «رجب طيب أردوغان» الذي أكد أن الشعب السوري هو من سيقرر مصيره، لكن لا مكان للأسد في مستقبل سورية، هل هو تناقض لدرجة الغباء، أم هي ثقة بغباء من يعتبرونه خليفة الأمة وراعي مصالحها، فيصدقونه؟ هل نتحدث عن موظف برتبة رئيس عينّه «آل سعود» على بلد الحضارة «اليمن» ليبشرنا وهو المقيم الدائم في الرياض بأن اليمنيين سيستعيدون اليمن من أيدي الإيرانيين؟ هل حقاً أن الطائرات التي ترتكب المجازر بحق اليمنيين وكان آخرها مجزرة «الحديدة» هي طائرات إيرانية ونحن لا نعلم؟
أما «فرانسوا هولاند» الذي فيما يبدو تلقى جرعة «فياغرا سياسية» بعد اختياره وبطريقة أكثر كاريكاتورية من خطابات الأمم المتحدة لجائزة «شخصية الدولة» للعام 2016، وهو الذي لا يحظى بتأييد ثلاثة أرباع الفرنسيين وفق استطلاعات الرأي لوسائل إعلام فرنسية، فقد أكد لنا أن الوضع في سورية يجب أن يتوقف ومعاناة السوريين يجب أن تنتهي، هل من يذكّر هولاند أن حكومته تقود الاتحاد الأوروبي الذي يمنع عن السوريين حتى استيراد المواد الأساسية بذريعة «معاقبة النظام»؟ هل من يذكره أن من يطرح مبادرات للهدنة وغيرها، يجب أن يكون ذا ثقل ودور في اللعبة الدولية؟ ما قيمة فرنسا في اللعبة الدولية اليوم، وهي كانت تتوسل «كيري» لاطلاعها على بعض بنود الاتفاق مع «لافروف» حول سورية؟ كلامه نابع عن ثقة بأنه عند «الأغبياء» هو ممثل لديمقراطية عريقة، وضحية دائمة للهجمات الإرهابية، لكن لا أحد يسأل هذه الديمقراطية العريقة:
ماذا عن ضحايا ليبية ومالي وساحل العاج.. ومؤخراً سورية؟
عدوى هولاند انتقلت فيما يبدو لوزير خارجيته الذي قال في مؤتمر صحفي قبل أمس تعليقاً على قرار القيادة العسكرية دخول الأحياء الشرقية في حلب لتحريرها من العصابات الإرهابية: إن سعي «النظام السوري» لاستعادة حلب هدفه لعب ورقة التقسيم. تصريح ربما يجعلنا نتذكر الأيام الخوالي التي كان فيها «سعود الفيصل» رمز الكوميدية في التصريحات، ويبدو أنه لم يرحل إلا وترك بيننا من يفوقه «سعة أفق». لا أعتقد أن أعتى مراكز الأبحاث السياسية في العالم (بالطبع هذه العبارة لا تشمل مراكز الأبحاث في سورية التي تتكاثر كالفطر من باب الوجاهة، وليس لها أي منتج بحثي يمكن الاعتماد عليه)، يستطيعون أن يفسروا كلام «إيرولت»، ولنكون دقيقين أكثر ربما حتى هو لم يفهم ما قال ولا يستطيع أن يجد الربط بين الحدثين؛ فالجيش السوري سيدخل للأحياء الشرقية لحلب من أجل ضمان نجاح مشروع الأسد بـ«تقسيم سورية»، كدنا نجهش بالبكاء من هول الصدمة، فهل هذا المستوى المنحدر من الاستخفاف بعقول الناس هو استمرار لسياسة استغباء القطيع الذي يصدقهم أم هي كما قال عنها الرئيس الأسد في حديثه الأخير لـ«وكالة الأسوشيتد برس» السذاجة التي يتمتع بها المسؤولون الغربيون؟
ربما هي الاثنين معاً، تحديداً أننا وإن كنا لن نمر على خطابات عتاة الحرب على سورية في جامعة «آل ثاني» العربية، ولا خطاب بان كي مون ذات نفسه باعتبار أن «الضرب بالميت حرام»، لكن لا مانع من التذكير أن عدوى الانحدار هذه وصلت حتى للجماعات الإرهابية التي يدعمونها، فـ«جبهة النصرة» أصدرت فتوى تحرّم قتال «داعش» بمساعدة الجيش التركي في الشمال السوري، على حين أصدرت حركة «أحرار الشام» فتوى معاكسة، وهنا لا نعلم إن كان لدى «دي ميستورا» فتوى تساعد الطرفين على الوصول لحل مشترك، لكن ما نعلمه أن هذا التخبط ما هو إلا انعكاس لما وصل إليه الراعي الأكبر، والباقي تفاصيل، فماذا عن الولايات المتحدة؟
منذ الساعات الأولى التي تلت قصف القوات الأميركية لقوات الجيش العربي السوري في دير الزور، وما تلاه من امتناع الولايات المتحدة عن تنفيذ التزاماتها بما يتعلق باتفاق الهدنة بين «كيري ولافروف»، كثُر الحديث عن تناقض واضح بين ما يريده البيت الأبيض وما يريده البنتاغون. البعض ذهب أبعد من ذلك بالحديث عن سعي كل منهما لإحراج الآخر، والبعض الآخر ذهب لفرضية تبادل الأدوار بين الطرفين، لكن تبادل الأدوار هذا قد يأخذنا للتوصيف الأدق، وهو التكامل بين ما يريده السياسي وما يريده العسكر، كلاهما يعلم أن النجاح السياسي في سورية لا يمكن إلا أن يترافق مع نجاح عسكري والعكس صحيح، فتحقيق أي منهما لنصر ما لا معنى له دون الآخر. هذا التكامل في سورية قد يبدو كحالة من الهروب نحو الأمام بما يتعلق بالوضع الداخلي الأميركي ذات نفسه، وهذا الوضع يمكننا تلخيصه بأسئلة منطقية: ماذا لو أفشل الكونغرس فيتو رئاسياً حول مقاضاة أسر ضحايا تفجيرات أيلول 2001 لـ«آل سعود»؟ ماذا لو نشر الروس ذات أنفسهم حقائق أكثر دقة عن القصف الذي طال قافلة الإغاثة المتجهة لحلب، وهم فيما يبدو يمتلكون الكثير من المعلومات لكنهم يتكتمون عنها أو يحاولون الإيحاء بها جزئياً؟ ماذا لو تصاعدت أحداث العنف في الداخل الأميركي التي باتت شبه يومية؟ هذا الأمر يقودنا لما هو أهم، أي إن ما يجري ليس متعلقاً فقط بوجود إدارة أميركية منتهية الصلاحية تقريباً، لكنه بات متعلقاً بمستقبل الولايات المتحدة التي لا يمكن لأي أحد مجرد التفكير بإسقاطها إلا من الداخل، وإن كان البعض يظنّ أن هذا الكلام مجرد أوهام وأحلام، لكننا في زمن لم يعد فيه مستحيل، فإذا كان نجاح «ترامب» كما يراه البعض هو قنبلة ملغومة سيصل شظاياها نحو الخارج الأميركي، فإن إخفاقه أشبهُ بقنبلة سيكون مفعولها حصراً ضمن الداخل الأميركي، لدرجة بات فيها الأميركيون يتهمون الروس علناً بتدخلهم بالشأن الانتخابي، ألهذا الحد وصل الوهن الأميركي؟
ربما أكثر من ذلك، وبمعنى آخر فإن الولايات المتحدة وبعد مرارة هزيمتها في سورية باتت اليوم بوضع لا هي قادرة أن تعترف بالوهن الذي تعيشه، ولا أعداؤها يتبعون معها سياسة الصدمة، فهل تكون الصدمة على طريقة «الربيع العربي» لدرجة اضطر فيها بعض الإعلاميين الأميركيين لوصف من يقومون بالاحتجاجات في مدينة «شارلوت» منذ أيام بأنهم لا يحملون بطاقات إقامة، أي إن الترجمة الدقيقة لما يريدون قوله إن هؤلاء «مندسون»؟ هل تكون الصدمة مثلاً عبارة عن معركة جوية فوق سورية، تكون معركة الحياة أو الموت وتضع النقاط على الحروف؟ لا يبدو الأمر مستبعداً والخيارات جميعها مفتوحة ولنتذكر أن رئيس الأركان الأميركي قالها صراحةً إن فرض مناطق حظر جوي ستؤدي إلى حرب مع سورية وروسيا. إن ذكر سورية متبوعاً بروسيا يعني تماماً أن الأميركيين يدركون أنهم لو كانوا قادرين على التدخل المباشر حتى هذه اللحظة لما وفروا جهداً، والأهم أن ذكر سورية وروسيا معاً يجعلنا نسأل بدهياً: وماذا عن الصين؟ ربما هو يعرف تماماً ماذا يعني الأمر ولذلك فإننا الآن وبكل المقاييس أمام أهم اللحظات التاريخية، فماذا ينتظرنا؟
بدأ السوريون معركة تحرير الأحياء الشرقية في حلب، لا يبدو من خلال المعطيات أن هذه المعارك ستتوقف تحديداً أن مشاركة الطيران الروسي فيها يعني ما يعنيه. بالمقابل لا تبدو الولايات المتحدة حتى الآن قادرةً على فعل أي شيء، وعليه فإن معركة حلب تبدو هي الفيصل، فإذا تدخلت الولايات المتحدة على طريقة دير الزور فعندها سنكون في مكان آخر والحديث عنه في وقته أفضل، أما إذا امتنعت الولايات المتحدة عن نجدة مرتزقتها فهذا يعني أن الأمر سينطبق على كامل التراب السوري بما فيها تلك المناطق التي يتمدد فيها النظام التركي كأفعى البيدر، وعندها كذلك الأمر سنكون في مكان آخر، وبمعنى آخر:
إننا الآن نعيش حالة الصدام الأخيرة، فهل ستكون الحرب الشاملة أم ستكون الهدنة الشاملة؟ أياً كان الأمر فإن الجميع الآن باتت يده على زر الإطلاق، والأمر لا يحتاج لأكثر من… خطأ، فمن سيخطئ أولاً؟
قد ينكفئ الأميركي معللاً لمرتزقته أنه كبس الزر الخاطئ.. وقد يتورط الأميركي ويسوّغ أنه أخطأ، عندها عليه أن يعلم أنه وعلى طريقة نقابيّ الألغام، فإن الخطأ الأول -بعد إخفاق الهدنة- هو الأخير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن