ثقافة وفن

الفكر ليس وجهة واحدة

| إسماعيل مروة 

هالني أن يقول لي أحد الأصدقاء وهو يتابع ما كتبته: لمَ تزج المسيحية والمسيحيين في كتاباتك عن الفكر الديني؟ هكذا قال بالحرف، وربما كان صديقي معذوراً، فكل واحد في حديثه عن التطرف والفكر الديني يحاول أن يبتعد قدر الإمكان عن أن يكون هو وما ينتمي إليه بعيداً عن النقاش والجدل!
دار بيننا حديث، أحاول أن أبينه له، فأنا لا أزج، ويعلم هو ما تعنيه كلمة أزج من إكراه وافتعال، وكأنه يصفني بالافتئات والتجني!
وأسأل ألا يشكل المسيحيون نسبة محترمة من المجتمع؟ عند توزيع المواقع والمناصب والغنائم؟ ألا يتحدث أولو الأمر عن نسبة المسيحيين وضرورة أخذها بعين الاعتبار؟ هل يعيش المسيحيون في جزيرة منعزلة عن المجتمع؟ ألا يتفاعلون؟ ألا يدفعون ثمن ما يحدث من دمار وإرهاب؟ ألم يذهب منهم شهداء في سبيل الوطن؟ ألا يكتوون بالنار التي تلقى على سورية اليوم؟ والسؤال الأهم الذي تتفرع عنه عدة أسئلة: ألا يملك المسيحيون فكراً دينياً؟ ألا يوجد بينهم من يحمل فكراً متنوراً وآخر يحمل فكراً إقصائياً؟ أما يوجد فيهم رجال دين حملوا الحب والتسامح وآخرون كانوا مثالاً للتطرف؟ هل يعقل لكاتب أن يبتعد عن شريحة مهمة ومحترمة، وفيها من أسباب النور للمجتمع الكثير؟
والأهم: لو قام أحدنا بالكتابة عن جانب واحد فهل يكون منصفاً؟ هل المطلوب من المسيحي أن يقول: أنا لا علاقة لي بما يحدث للآخر؟ وهل يطلب من غير المسيحي أن ينظر إلى المسيحي على أنه خصم ولا علاقة لي به؟
أين يا صديقي مفهوم المواطنة؟ وأين مفهوم الدولة المدنية والعلمانية التي سعت إليها سورية على الدوام، والتي نبحث اليوم عنها أكثر من أي يوم مضى لحلول تلزم مجتمعاتنا؟
أستغرب أن يطلب أحدهم هذا الطلب، وقد استغربت من قبل في حديث أجري مع أحد رجال الدين المسيحيين العلماء قوله: أتوجه للمسلمين أن يبتعدوا عن العنف! وأذكر أنني حرصاً على سمعة ذاك الرجل تصرفت بالعبارة لأن العالم الجليل رأى العنف في الجانب الإسلامي وحده، وكان الأجدى به أن يتوجه إلى الجميع بتعدد الشرائع والمذاهب والطوائف، فهل يعقل أن يكون جانب واحد لكل مكوناته هو العنف والدمار والقتل والتطرف، والمكون الآخر ما شاء الله عنه لا يملك أي فكرة يمكن أن تنسب للتطرف؟
عندما يعالج أحدنا الفكر الديني يجب أن يتمتع بمواصفات عدة، أولاها أن يكون قارئاً للفكر الديني السماوي، وللفكر الأيديولوجي الوضعي، عندها يمكن أن يكون منصفاً، ولا يكون منطلقه قائماً على الجهل، وكذلك أن يكون محايداً، فلا يرى إجلالاً لجانب أو شخص مهما كان هذا الشخص، وإن كان الجانب يعنيه مباشرة… فعندما أتحدث عن محاولات تعميم مذهبية إسلامية مستفحلة منذ منتصف القرن العشرين، يجب ألا أنسى محاولات طائفية أخرى موجودة لدى المسيحيين في الوقت نفسه، أما أن يكون المسيحيون مبشرين والمسلمون لا يفعلون فهذا عيب، وأن يكون المسلمون يدعون إلى مبادئهم والمسيحيون يلتزمون الصمت فهذا استخفاف بالعقل!
عندما كنت طالباً في الجامعة رأيت كتاباً يحمل عنوان (التبشير والاستعمار) لفروخ والخالدي وقد سمعت إشادات لا تحصى بهذا الكتاب، اقتنيته لأنني قرأت الدكتور عمر فروخ مؤرخاً وباحثاً وأحببته، واليوم وبعد ما يزيد على ثلاثة عقود أعترف بأنني لم أكمل قراءة الكتاب.
وعدت حديثاً لقراءته فما أحببته، وما استمتعت بقراءته، ورأيت أنه يمثل وجهة نظر واحدة، أعترف بذلك وأقوله، لأن الكتاب لم يلمح إلى أي نوع من الأدوار للمسلمين والسلطات الإسلامية التي توزع المساجد والمعاهد في كل صقع من أصقاع الدنيا، وإن كان للمؤلفين من حجة وهي ضعيفة، ارتباط التبشير بالاستعمار، لأن الدول العربية والإسلامية آسيوية وإفريقية ضعيفة على كل مستوى، لذلك كانت هدفاً للاستعمار والتبشير! ولكن بالمقابل ألم يحدث تبشير إسلامي يطلق عليه المسلمون اسم الدعوة! ولا أدري الفرق بين الدعوة والتبشير وكلاهما يرتكز إلى المال واستغلال حاجة الناس، وإلى التخلف المجتمعي وسعي كل من التبشير والدعوة إلى استغلال هذا التخلف وإيجاد الحلول المؤقتة له!
يا صديقي عندما نرفض التطرف من الفكر الديني علينا أن نرفضه من الجميع، وعندما نضع ملاحظات على طرف يجب أن نضعها على الأطراف جميعها، وعندما نشيد بتنوير ديني- إن وجد- علينا أن نشيد به لدى الجميع.
ليس من المتطرفين الذين نعرفهم اليوم ذلك الأستاذ الجليل، أستاذي الذي درسني في جامعة دمشق قبل خمسة وثلاثين عاماً، وعندما التقيته قبل يومين، قال لي: إن أحد طلابي وهو من دفعتكم كان مسافراً عندما مات أبوه، فاستدعي على عجل، وأسبغت عليه الصفة الدينية، واليوم يأتي هذا ليقول فيّ قوله، وليحكم عليَّ أو لي، وأنا أعرف كل تفاصيله!!
لن أذكر الصفة حتى لا يزعل أحد من جانب آخر، ولكن ما قرأته في عيني أستاذي وحديثه يدعو إلى التأمل، ويدعو إلى الحزن، ويدعو إلى الكثير من التأمل الممضّ، وهو يسرد قصة عامة تبين مدى تطرف الأحكام لدى هذه الفئة، وعمق جهلهم بالقضايا المجتمعية التي تلزم لبناء مجتمع عصري متطور، فهم لا يكتفون بقضايا الناس، بل يصدرون أنفسهم على قضايا الشأن العام، ويقدرون على زجّ أتباعهم في خصومة مع الدولة والتشريع والقوانين، وقال لي أستاذي: منتفخون يظنون أنهم فوق القانون، ويظنون أن أحكامهم فوق الدولة، وأنه يمكن لهم أن يلووا يد الدولة! وتابع لولا قيام الدولة باحتواء الموضوع لكان الأمر أكثر خطورة! أليس هذا من طبيعة الفكر الديني؟
إن تناول مسائل الفكر الديني يجب أن يكون تناولاً عاماً لا يترك جانباً من الجوانب، وعلينا أن ننظر للفكر الديني برمّته نظرة واحدة بغض النظر عن انتمائنا إليه، الانتماء فردي، والفكر الديني المسيَّس يهدف إلى التعميم والخروج من الدائرة الفردية، وأعدك صديقي أن يكون هذا التناول الأخير المشترك، لأنني أدركت أن الطهرية في مكان كلها، والخبث في مكان كله!!
كفانا نتوجه إلى الشرائع والمذاهب والطوائف، ولتتوجه أنظارنا لنقد كل المظاهر السلبية والمتطرفة أينما وجدت… ولتكن غاياتنا موجهة إلى السوري لأنه سوري، لا لأنه ابن هذا المذهب أو تلك الطائفة… سورية ينقذها المواطن السوري، لذلك عندما تتوجه المصالحات لعودة فلان إلى حضن الوطن، فإنها تتوجه لأنه سوري، لا لأنه ينتمي إلى هنا وهناك، والذين ابتعدوا عن حضن الوطن ينتمون إلى الجهات كافة.
هويتنا، سوريتنا لا تحمل أي إشارة دينية أو مذهبية، فلنعمل على مواطنيتنا، ولنترك ما في الكتب وبطونها للكتب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن