قضايا وآراء

ماذا بعد تصاعد الطموحات الروسية؟

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

يا طيرة طيري يا حمامة.. «وانزلي بدمّر والهامَة»: مقطع صغير من إحدى الأغنيات التراثية السورية، لكنها بالأمس تجسَّدت بتلك الحمامة التي تقمص شخصيتها «شجعان هذا العصر» بدخولهم منطقة «الهامة» في ريف دمشق وإعلانها منطقةً خاليةً من الإرهاب. عذراً من تراثنا الفني الذي نحترمه، لكن الحمامة لا يبدو أنها ستقف فقَط على حدود «الهامَة»، فمن ولدَ أساساً مرفوعَ الهامة، سيكون كلّ شبر من تراب سورية بالنسبة له «الهامة».
حال التقدم الميداني في عدة مناطق كحلب وريف دمشق وريف حماة، لم يكن وحده الحدث الذي صبغ الأيام الفائتة، بل إن هذا الأمر ترافق مع ارتفاع مستمر في حدة التصريحات بين الروس من جهة، والأميركيين وحلفائهم من جهة ثانية، فالروس أعلنوها صراحةً أن استهداف قوات الجيش العربي السوري من قبل أي جهة سيعني حكما عدم وقوف الروس مكتوفي الأيدي، تحديداً أن هذا الأمر سيعرِّض القوات الروسية العاملة في سورية للخطر. النقطة الثانية أن الحديث عن وصول صواريخ «إس 300» جعل البعض يتساءل:
ما الذي هدفَ إليه الروس من هذا الإعلان إذا كانوا هم أساساً اصطحبوا معهم النسخة المتطورة من هذه الصواريخ وهي «إس 400». حتى البيت الأبيض خرج بطريقة بدائية يدّعي فيها عدمَ فهم الهدف من تسليم الروس للسوريين هذه المنظومة المتطورة. بالتأكيد أنه فهِم، لكن ادعاءَ عدم الفَهم هو صيغة مشابهة لكل التكاذب الذي مارسه ويمارسه الأميركي منذ اندلاع «ربيع الدم العربي»، والقضية واضحة:
إذا كان الروس يستأثرون بمنظومة «إس 400» للدفاع عن قواعدهم فقط ضد أي خطر محتمل، فإن وجود منظومة «إس 300» بأيدي السوريين تعني حكماً أنهم جاهزون لأي حماقات، بمعزل إن كان الهدف سورياً أم روسياً، فهل وصلت الرسالة للأميركيين؟ ربما هي كذلك، لكنهم ليسوا وحيدين، بل إن الأمر وصل بـ«الإسرائيلي» إلى الطلب من وزارة الدفاع الروسية إعادة دراسة البروتوكول الخاص باستخدام الروس للمجال الجوي السوري تحديداً عند الحدود السورية مع فلسطين المحتلة، هذا يعني أن ما يجري من تشابك مترافق مع تدعيم الروس لوجودهم في سورية براً وبحراً وجواً، يعني أن الأمور لن تكون نزهة، بل إن ما يراه الروس بات أبعد بكثير من إمكانية تضييع وقتهم بالخداع الأميركي في سورية، وهم فيما يبدو انطلقوا بتصريحاتهم لما هو أبعد، ولكي نفهم أين وصل الروس بذلك، علينا أن نفهم أين بات الأميركي حالياً؟
ربما أن أفضل ما في اتفاق الهدنة الأخير بين (لافروف وكيري) والذي أفشلته واشنطن، أنه كان الحدث الأكثر وضوحاً في وضع الولايات المتحدة أمام حقيقتها، إن كان لجهة الدعم العلني للتنظيمات الإرهابية بما فيها «جبهة النصرة»، أو الرغبة الواضحة بتقييد أي إنجاز للجيش العربي السوري ولو كان ضد «داعش» بهدنة أو قصف هدفهما إعادة ضخ الدماء في جسد الإرهاب. هذا الأمر دفع الأميركي للكثير من الضياع والتخبط، بما فيها التصريحات والاتهامات الأميركية الموجهة ضد الروس صراحةً (باعتبار أن الاتهامات الموجهة ضد القيادة السورية اعتدنا عليها)، فلجؤوا لأسطوانتهم المعتادة، «جرائم حرب»، «مجازر جماعية». تخيلوا مثلاً أن دولة دمرت وقتلت الملايين حول العالم، تجلس لتحاضر بالعفّة!
أيضاً، فإن مسار الأحداث لم يكن كما يشتهي الأميركي، فزاد في كشف حقيقة القدرات الأميركية ونفوذها. لا قرار لمجلس الأمن قد مر، ولا «جبهة النصرة» قبلت بمرافقة «دي ميستورا» لهم إلى إدلب، ولا البيت الأبيض قادر أن يعطي كلمةَ الفصل فيما يريد فعله، ولا الروس اقتنعوا باللائحة التي قدّمها الأميركيون لفصل «الجماعات الإرهابية» عن «المعارضة المعتدلة»، تحديداً إن اللائحة التي قدموها تضم تنظيمات قاتلت مع «داعش» و«النصرة»، لكن هذا الفشل والانكشاف الأميركي لا يمكن فصله عما يجري حالياً من حرب طاحنة بين الفصائل الإرهابية في ريفي إدلب وحماة، فكيف ذلك؟
تبدو هذه التنظيمات الإرهابية، بتراتبية هيكلية تميل في رأسِ الهرمِ خاصتها لهذه الدولة أو تلك. لكن الوقائع أثبتت أن الدرجات الأدنى من رأس الهرم متحرِّر من أي ضوابط أو موانة، وما يجري حالياً بين «جند الأقصى» و«أحرار الشام» خير دليل على ذلك.
لا يبدو أن ما يجري وكأنه قرار من الرعاة إقليمياً أو دولياً بتصفيةِ الجماعات الأكثر تطرفاً لصالح الجماعات الأقل تطرفاً؛ ولا حتى كما يروج البعض أنها صورة عن الخلافات بين الدول والمشيخات الراعية لهم، الأدق أن ما يجري هو صورة عن تخبط الرعاة. هي الفوضى التي تثبت مرةً جديدةً أن هذه الحثالات لا يمكن لأحد ضبطها بما فيهم الأميركي. هم فقط يمدونها بالسلاح لاستمرار الفوضى لا أكثر، وهنا سنسرد بعض الأمثلة:
في رمضان الماضي، وفي منطقةِ «كفرنبل» التي تضم أذكى ثوار عرفهم التاريخ، قامت مجموعة من «جند الأقصى» بالاعتداء على «مسحراتي»، بذريعةِ أن ما يفعله منكَر وليس من «الإسلام» بشيء، يومها أدى هذا الحادث البسيط لارتفاع حدة التوتر والاقتتال بين التنظيمات الإرهابية، ليس على خلفية عقائدية فحسب ولكن على خلفية عائلية، باعتبار أن مناطق كهذه ينتشر فيها ما يسمى «الفزعة العائلية».
أما في شباط الماضي، وعندما احتدم القتال بين «جبهة النصرة» بمؤازرة «جند الأقصى» من جهة وما يسمى «الفرقة 13» التي كانت تراها الولايات المتحدة أساساً لما تسميه المعارضة المعتدلة في ريف إدلب ومع ذلك لم تحاول حمايتها، رفضت اللجنة الشرعية في «معرة النعمان» النظر بالأمر لأن «جبهة النصرة» يومها رفضت إعطاء ضمانات بالتزام «جند الأقصى» بإطلاق الأسرى أو تطبيق الاتفاق.
هذه الجزئيات يمكن النظر إليها بنوع من البساطة؛ لكنها عملياً تثبت أن جميع الدول الراعية للإرهاب تكذب، لأنها حكماً لا تستطيع الموانة على أحد منهم، فكيف لنا أن نطلب منهم الطلب من المعتدلين الانفصال عن المتطرفين؟
النقطة الثانية، أن من يقرأ البيانات التي أصدرتها التنظيمات الإرهابية، سواء التي ادعت تأييدها لـ«جند الأقصى»، أو التي ذهبت باتجاه «أحرار الشام»، فإن كلَّ طرف يكفِّر الآخر، وكلّ طرف يرى الآخر مرتَداً وجبَ قتاله، أو «خوارجياً» وجبَ الاقتصاصَ منه، وفقَ «شرع اللـه». أما النكتة الأهم فإن «جبهة النصرة» المصنفة إرهابية باعتراف الجميع فهي الوحيدة التي أخذت دور «المصلح» وتحاول «حقن الدماء».
لا نعلم إن كان «الجولاني» استمد هذه الإنسانية من أخلاقيات «الإدارة الأميركية» أو من بكائيات «دي ميستورا» لكن السؤال الموجه للجميع:
إذا كان المصنف إرهابياً باعترافكم هو العاقل بين كل هذه الجماعات المتقاتلة، فهل حقاً ما زلتم تظنون أنكم قادرون على اللعب بورقة اسمها «المعارضة المعتدلة»…. لكن ما تأثير ما يجري على مسار الأحداث؟
بدا واضحاً أن التقاتل الجاري هو جملة قصيرة في نص الأحداث القادمة. ربما أن هذا التقاتل أضعفَ جبهة «ريف حماة»، ما سهّل تقدم الجيش العربي السوري والحلفاء، بل إن الهدف فيما يبدو أبعد من استعادة المناطق التي تم احتلالها في الأسابيع الماضية من قبل «جند الأقصى». كذلك الأمر فإن هذا التقاتل أضعف ما يسمى «قوات درع الفرات» المدعومة من «نظام أردوغان» تحديداً أن «العدالة والتنمية» لجأ لسحب أعداد كبيرة من إرهابيي جبهات إدلب نحو الشمال السوري كون الجبهات كانت «هادئة»، واليوم بدأت الهجرة المعاكسة، ما أدى لاستعادة «داعش» للعديد من القرى التي كانت خرجت منها، فماذا ينتظرنا؟
لا تلتفتوا كثيراً لما يريده الغرب في مجلس الأمن لأنه لن يمر، أما عندما يأكل الإرهاب بعضه فإن الأمر لا يعنينا لأن الإرهاب إرهاب سواء أكان متطرفاً أم لم يكن، أما التهديدات بضرب مقرات للقوات السورية من الولايات المتحدة -وليس الناتو كما يروج البعض- فدعونا نقل إنه احتمال قد يلجأ إليه أوباما ولكن على طريقة «جورج بوش» عندما قصفت الطائرات الأميركية منزل عائلة في «البوكمال» في الساعات الأخيرة، من ولايته من باب «حفظ ماء الوجه» وعلى طريقة «صحوة الموت»، باعتبار أن الهدف القادم كان سورية بعد العراق، لكن السوريين نجحوا بامتصاص مفاعيل الغزو.
إن كل ما يجري يسير في الاتجاه الصحيح الذي يريده السوريون والروس، وخير دليل على ذلك كلام وزير الخارجية الهندي عن إنشاء دول البريكس صندوقاً لإعادة إعمار سورية، لكن لمعرفة الأهم: دققوا بما قاله الروس عن النية باستعادة قواعدهم في.. فيتنام وكوبا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن