من دفتر الوطن

فضل الخيال على المعرفة

| حسن م. يوسف 

«الخيال هو كُلُّ شيء، إنه العرضُ المسبقُ لمفاتنِ الحياةِ القادمة. الخيال أهم من المعرفة».
قد تدهشون مثلي عندما تعلمون أن صاحب الفكرة الواردة أعلاه ليس أديباً خصيب المخيلة، من جماعتنا نحن الكتاب، بل هو العالم العبقري في الفيزياء النظرية ألبرت إنشتاين الذي كان فيلسوفاً ومؤلفاً بارزاً، قدم إسهاماتٍ عظمى في مجال العلوم، فإلى جانبِ النظرية النسبية، أسس علمَ الفلكِ النسبي، ونظريةَ انحرافِ الضوء بتأثير الجاذبية، ونظريةَ (الكوانتم) حول حركةِ الذرات في الأجسامِ الصلبة، ومفهومَ الطاقةِ عند نقطةِ الصِّفر، إضافة إلى العديدِ من النظرياتِ والإسهاماتِ العلميةِ والفكرية المهمة. ما أهله للفوز بجائزةِ نوبل للفيزياء عام 1921.
والحق أنني شاهدت بأم عيني دليلاً قاطعاً على صحة اعتقاد إنشتاين بأن الخيال أهم من المعرفة عندما سافرت إلى الولايات المتحدة الأميركية بترشيح من وزارة الإعلام السورية قبل عشرين عاماً، فقد زرت جميع المتاحف المجانية في العاصمة الفيدرالية واشنطن وقد سحرني بشكل خاص متحف الطيران والفضاء، لا لأنه يضم أضخم معرض للطائرات والمركبات الفضائية في العالم وحسب، بل لأن في بهوه الواسع شاشتين تعرضان بشكل متزامن أهم المخترعات التي أنجزها الإنسان عبر التاريخ؛ فعلى الشاشة الأولى نرى الاختراع كما تخيله الأدباء والمبدعون في كتاباتهم ورسومهم وأفلامهم وعلى الشاشة الثانية نرى الاختراع نفسه كما حققه المهندسون والعلماء بعد سنوات قد تطول وتقصر. والمذهل في الأمر هو أن التشابه يصل أحياناً حد التطابق بين خيالات الفنانين والأدباء والمخترعات التي جسدها المهندسون والعلماء انطلاقاً منها.
وها هي جائزة نوبل للكيمياء لهذا العام تقدم دليلاً جديداً على أن الخيال أهم من المعرفة وأن خيال الفنانين والأدباء هو الذي يستطلع دروب المستقبل الغامضة للعلماء. فالإنجاز الذي حققه العلماء الثلاثة الذين فازوا بجائزة نوبل للكيمياء في مطلع الشهر الحالي تم تجسيده في فيلم خيال علمي عنوانه «رحلة رائعة» أنتج في هوليوود عام 1966 أي قبل نصف قرن!
كما أعيد تجسيده في فيلم آخر حصل على جائزة أوسكار عام 1987 هو «الفضاء الداخلي» للمخرج جو دانتي بطولة دينيس كويد، مارتن شورت، وميغ رايان، مع روبرت بيكاردو وكيفن مكارثي، وبما أنني لم أر الفيلم الأول سأحدثكم عن الثاني.
في «الفضاء الداخلي» يقوم أحد العلماء باختراع آلة تستطيع تصغير الأجسام ملايين المرات، وبفضل هذه التقنية يتمكن من تصغير مركبة فضاء ورائدها بحيث تصبح بحجم رأس الدبوس ثشم يدخلها في جسم أحدهم بواسطة حقنة لتقوم برحلة مدهشة داخل جسم ذلك الإنسان.
أما جائزة نوبل للكيمياء لهذا العام فقد منحت لثلاثة علماء هم جان بيير سوفاج (فرنسا) وسير فريزير ستودارت (أميركا) وبرنارد فيرينغا (هولندا) لقيامهم بتصميم وتركيب «آلات جزيئية» يمكن التحكم بحركتها داخل الجسم، وهذه الآلات مجهرية كما في الفيلم، يبلغ قطر الواحدة منها أصغر من شعرة الإنسان بألف مرة، ويمكن حقن الإنسان بها، وتسييرها داخل جسمه وتوظيفها في نقل الدواء إلى الخلايا المصابة بدقة تامة، ما يبشر باستخدام طرق ثورية في معالجة الخلايا السرطانية بشكل مباشر. ويمكن لهذه الروبوتات النانوية المفرطة في الصغر أن تحوِّل تفاعلات الجسم الكيميائية إلى حركة وطاقة كما يمكن برمجتها بحيث تؤدي المهام التي تحدد لها.
وقد اعترفت لجنة جائزة نوبل بنجاح العلماء الثلاثة في الربط بين الجزيئات لتصميم أي شيء وتصغيره. وجاء في بيان اللجنة أن العلماء الثلاثة: «… قد طوروا جزيئات ذات حركة يمكن السيطرة عليها، ويمكن أن تؤدي مهمة ما عند إضافة طاقة إليها. ويوضح تطوير الحوسبة كيف يمكن أن يؤدي تصغير التكنولوجيا إلى ثورة. وهؤلاء الذين منحوا جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2016 قاموا بتصغير الآليات ونقلوا الكيمياء إلى بعد جديد».
صدق إنشتاين: الخيال أهم من المعرفة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن