ثقافة وفن

وزيران وسياحة وذاكرة

| إسماعيل مروة 

شاءت الأقدار بعد أن التقيت كلماته أن ألتقيه، ولم أكن لأقدر أن اللحظة التي أشار إليها السيد رئيس التحرير بزيارة الأستاذ عبد الله الخاني ستكون مفصلية في الرؤية العميقة، وتتالت اللقاءات معه، فوجدت ذلك الرجل المختلف، الذي لا يتمسك بشيء، ولا يتهرب من مسؤولية، وكلما قلت له: أطال الله عمرك، سمعته يقول: لا، لماذا طول العمر؟ لا اعتراض على شيء، ولكنني عندما أضع رأسي على المخدة، أشكر الله أنه لا يزال عندي بيت وغرفة نوم وأسرة، فما بال الكثيرين الذين ليس لديهم بيوت أو مكان للإيواء؟ وتنزل دمعته، وهو يقول: عندما يدلف الليل أشعر براحة لأن ذلك سيريحني من القراءة والمتابعة والسماع، فإذا بالدمار يدهمني في نومي، فلا أشعر بطعم للراحة! ولكن هذه النظرة المتعاطفة الحالمة لم تمنعه من أن يمارس حياته كما يراها… وحين كرمته وزارة السياحة، قال: ليس لي عليهم أي شيء، شكراً لهم، استلم شهادة التكريم عني بسبب مرضي، وحين علم السيد المهندس بشر يازجي وزير السياحة بوضعه الصحي، طلب مني- وهو الصديق- أن نذهب للأستاذ الخاني في منزله، وكان ذلك في الصباح قبل أن يباشر العمل في وزارته، الوزير كان حريصاً على الدقة، والوزير الأسبق كان متابعاً تفاصيل الوقت، وكم كان رائعاً أن يدلف ابن العقد التاسع لإكرام ضيفه، والتعبير عن الاعتذار، وبأن الواجب أن يذهب إليه ليشكره على التكريم… الوزير الأسبق أشفق على الوزير الحالي لعمله في ظروف صعبة، والوزير الحالي شكر للمؤسس في السياحة ضمن ظروف صعبة، وشرح له الآليات التي يتم العمل عليها اليوم لتفعيل السياحة داخلياً وخارجياً… لفت انتباهي هذا الاحترام المتبادل بين وزير أسبق ووزير حالي، وحرص كل منهما على السياحة ودورها… لكن ما استرعى الانتباه والروح أمران، فحين سأل المهندس يازجي الأستاذ الخاني عن حاله، أجابه: إنني أتحرك وأشارك بعض الزملاء جلساتهم، وأمشي في الطرقات، لأنني أخشى أمرين، أخشى العجز وعدم القدرة على مغادرة البيت، وأخشى النسيان والخَرَف، وقال الخاني بصوت خفيض: الحمدلله أنني أخرج وأسير في الطرقات، ولا أضيع، بل أعود إلى بيتي، أتمنى ألا أشعر بالعجز، وألا أضيّع عقلي وذاكرتي… وذكر حوادث لأصدقاء كانوا قمة الذكاء والحيوية، وفي المكانة الرفيعة، لكنهم فقدوا قدراتهم وأصابهم الخرف في أواخر أيامهم فكانت النهايات بائسة!!
وحين ودّعه المهندس يازجي رافقه إلى المصعد، وحاولنا ألا يتابع معنا، لكنه انسلّ إلى المصعد وهو يدّعي أنه يريد الخروج، وهو يقول له: واجباتي أن أودعك إلى سيارتك.
كلاهما كان محرجاً من لطف الآخر واحترامه ولباقته.
وعاد الخاني إلى بيته، في دمشق التي أحبها أكثر من أي مدينة أخرى عاش فيها في الكون، عاد إلى بساطة الحياة الطبيعية التي أرادها لنفسه، ينتظر أصدقاءه للتحاور فيما بينهم، ويستمتع بقراءة دورية أو كتاب ليقاوم الذاكرة، وليجعلها مصقولة دوماً، تنتظر المزيد من المعرفة، مع ما في المعرفة من ألم شديد لأمثاله الذين لا يطيقون رؤية دمار أو خراب أو دم، من أين تأتي الطمأنينة؟ ومن أين ينبع الهدوء في شخص رجل يدلف إلى إتمام العقد العاشر؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن