ثقافة وفن

سوق ساروجا… شاهد على تاريخ دمشق … ضم مدرسة خرجت أهم العلماء الأجلاء

| منير كيال

يعد حي سوق ساروجا من أحياء مدينة دمشق المهمة، فهو يمتد من الصالحية (ساحة يوسف العظمة) غرباً إلى حي العقيبة شرقاً.
فهو عقدة اتصال بين أحياء مدينة دمشق الجنوبية الشرقية، وبين أحياء مدينة دمشق التي تقع إلى الشمال والغرب. فهو من ناحية الغرب صلة وصل إلى حي المهاجرين، وهو بين مناطق عين الكرش والسمانة والدحداح شمالاً مع البحصة جنوباً وترتفع أراضي حي سوق ساروجا نحو ثلاثين متراً عن مستوى مياه نهر بردى، وهذا يجعله في منأى عن فيضان نهر بردى، في فصل الربيع، لذلك اعتبرت أراضي هذا الحي من أراضي الشرف الأعلى.

سوق ساروجا من أحياء مدينة دمشق المأهولة منذ الفتح الإسلامي لمدينة دمشق، وقد سكنه الأشعريون من عرب جنوبي شبه جزيرة العرب، وتقلب على سكناه، أجيال متعددة في العهد الأموي والعهود التي أعقبته، وخاصة زمن المماليك والعثمانيين، فضلاً عن زمن الأيوبيين.
بدأ هذا الحي على شكل سويقة توافرت فيها اللوازم الضرورية لتجمع سكاني بسيط، كانت هذه السويقة إبان عهد السلاجقة أحد الأرباض المتاخمة لمدينة دمشق، وقد كان العمران فيه وقفاً على بعض المنشآت الصغيرة، ضمن البساتين، فضلاً عن الترب (المقابر)، ومن ذلك التربة النجمية التي ضمت قبور بعض الأمراء الأيوبيين الأوائل، قبل نشوء الدولة الأيوبية… وكذلك المدرسة الشامية البرانية، التي أمرت بإنشائها، الخاتون ست الشام أخت صلاح الدين الأيوبي، في فترة حكم أخيها. كان لهذه المدرسة الدور الكبير في ازدياد أهمية سويقة سوق ساروجا، لدور هذه المدرسة العلمي، وتفضيل الأمراء الأيوبيين إشادة تربهم (مقابرهم) قرب هذه المدرسة.
وقد اعتمدت ست الشام، للتدريس بالمدرسة علماء متفقهين أجلاء. كما وقفت لهذه المدرسة أراضي واسعة، للإنفاق عليها. فكانت المدرسة الشامية البرانية نقطة البداية، لازدهار سويقة ساروجا.
ونشطت حركة العمران بسويقة ساروجا زمن المماليك، وخاصة زمن السلطان قلادون. ومن ذلك حكر الأمير ابن صبح وحمام الورد.
كان لابن صبح حكران، الأول إلى الشمال من المدرسة الشامية البرانية في موقع حارة قولي، والحكر الثاني هو حكر الورد، عند حارة الورد، وقد تصحّف اسم (صبح) إلى (سبح) على عامية أهل دمشق.
فلما كان الأمير تنكز نائباً للسلطنة المملوكية بالشام، نشأت سويقة ساروجا على يد الأمير المملوكي: صارم الدين صاروجا المظفري سنة (740) للهجرة.. ثم اتسع العمران فشمل ما كان لسكن الضباط والجنود المماليك. ورافق ذلك تشكل تجمعات بها منشآت مدنية كمسجد الداودار المعروف بمسجد القرشي، وقربه مسجد بلنان بحارة قولي ومسجد برسيلي بحارة الورد.. بذلك حمل الحي اسم صاروجا ثم تصحّف الاسم إلى سوق ساروجا.
كما شهد حي سوق ساروجا تطوراً كبيراً في العهد العثماني، فاتسع نحو الشمال إلى عين الكرش وإلى الغرب نحو الصالحية، فقامت به الدور الفارهة، والحمامات الواسعة المترفة، والعديد من المساجد حتى أطلق عليه لقب استانبول الصغرى، لكثرة ما أقام به من الأتراك وموظفيهم.
وهكذا فقد امتد حي سوق ساروجا عبر شارع يمتد من الشرق إلى الغرب بحيث يتقاطع مع أزقة ضيقة وحارات أكثر ضيقاً ومن ذلك ما ذكرناه عن المدرسة الشامية البرانية وجامع الورد وحمام الورد، وحارة العبيد، وحارة الشالة، وجوزة الحدباء، وحارة القرماني، وحارة ستي زيتونة وحارة قولي.
فجادة الورد، نسبة لحكر الورد لابن صبح (سبح) وحارة العبيد إلى الغرب من جادة الورد، كانت منزلاً لبعض فرق العسكر المملوكية من الجلبان (المرتزقة) السودان، شأنها في ذلك شأن حارة الديلم. وهم من الزنوج الأفارقة، أما الديلم، من آسيا الوسطى عند بحر الخزر والشائع أن حارة العبيد، إنما سميت بذلك لكثرة ما كان فيها من خدم يعملون بدورها، كناية عن الطابع الأرستقراطي لهذه الحارة في العهد العثماني.
ونزلة جوزة الحدباء، تنحدر من الشمال باتجاه الجنوب وتعود التسمية إلى شجرة جوز كانت مائلة الجذع (الساق)، فعرفت الجادة بنزلة جوزة الحدباء. وكان بنزلة جوزة الحدباء هذه مسجد يعود إلى العهد الفاطمي بناه الأمير المزدقاني، ومن معالم هذه النزلة بناء الريجي (التنباك) وكان يقابله، فندق كبير له شهرته وهو فندق قصر دمشق (دامسكوس بالاس) وقد هدم بالعقد السادس من القرن العشرين.
أما حارة الشالة، فتنسب إلى أمير مملوكي يسمى الشالق أو الجالق أقام هذا الأمير بسويقة سوق ساروجا، فنسبت الحارة إليه، وقد تصحّف الاسم من الشالق إلى الشالة. كان ذلك زمن الأمير تنكز نائب السلطنة المملوكي خلال عهد السلطان قلادون.
وجادة القرماني، نسبة إلى مسجد القرماني الذي أنشأه محمد القرماني بالعهد العثماني سنة (969) للهجرة. والقرماني من سلالة قرمان بآسيا الصغرى.
أما حارة ستي زيتونة فاسمها نسبة لستة شهداء دفنوا قرب أو تحت شجرة زيتون وقد صحف لفظ العدد ستة إلى ستي ومقام هؤلاء الشهداء الستة على الطريق أو الجادة الواصلة بين سوق ساروجا وسوق النحاسين. وليس للمقام المذكور أي سمة عمرانية زخرفية. وقد أصبح اسم جادة ستي زيتونة: جادة السلطان.
ولابد من القول: يوجد بحي سوق ساروجا أسر حافظت على وجودها بهذا الحي ولا تزال دورها قائمة بالحي وقد تعاقب على سكن هذه الدور العديد من أبناء وأحفاد هذه الأسر.
كما أنه لابد لنا من التوقف مع تسمية حي سوق ساروجا بالعرف الشعبي، ذلك أن العديد من أهل الحي ينسبون إطلاق رسم سوق ساروجا على الحي إنما هو نسبة لأحد الصالحين، الذي لا يزال قبره «مقامه» قائماً شرق حارة الورد وكان الحي من يقدم لهذا المقام الشموع والزيت لإنارته، كما أن من النساء من تربط خيطاً أو سريدة (قطعة رفيعة) من القماش بشباك (نافذة) المقام، عسى أن يكون ذلك تحقيقاً للأماني والآمال. وهم يرون أنه بينما كان هذا الرجل يؤدي فريضة الحج مع صحبه، خطر لوالدته أن تطهو (تطبخ) طبخة اللبنية اشتهت لابنها تذوق اللبنية، فإذا بابنها قد قدم من الحجاز خلال لحظة. عمدت الأم إلى إملاء السفرطاس (آنية) من تلك اللبنية.
أخذ الابن ذلك السفرطاس وعاد إلى صحبه بالحجاز، وتناول مع صحبه تلك الكبة اللبنية وهي لا تزال ساخنة..!!
فكان من قدوم ذلك الرجل من الحجاز وعودته بلحظات وتناوله تلك اللبنية ساخنة سبب في إطلاق تسمية سوق ساروجا باسمه. لأنه قدم من الحجاز إلى دمشق وعاد إلى الحجاز بلحظات، كمثل من سار (ذهب) وجاء (قدم). ولله في خلقه شؤون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن