قضايا وآراء

معركة الموصل- وكذا حلب- في نهاياتها

| عبد المنعم علي عيسى 

عندما قرر السوريون والروس الإعلان عن هدنة الـ72 ساعة التي ابتدأت يوم الخميس 20/10/2016 كان الرهان على أن التركيبة المعيشية والعسكرية التي تم بناؤها على مدى أربع سنوات كاملة في أحياء حلب الشرقية باتت آيلة للتفكك أو أنها الآن في طور التصدع ما قبل الانهيار، ولذا فإن الإعلان عن الهدنة فضلاً عن أنه سوف يخفف من الضغوط الدولية فإنه سيدفع بجبهة النصرة إلى القبول بمبادرة دي ميستورا التي تفترض خروج مقاتليها إلى مكانات آمنة، إلا أن ذلك الرهان لم يتحقق وما حصل هو أن النصرة عادت إلى رص صفوفها وإعادة تسليح فصائلها- إن أمكن- استعداداً لمواجهة كبرى وفاصلة مع الجيش السوري، وجميع المؤشرات المتوافرة تدل على أنها حاصلة اليوم أو غداً بعد انتهاء مدة الهدنة التي تم تمديدها يوماً واحداً.
خاضت جبهة النصرة معركة «الهدنة» بشراسة منقطعة النظير وهي لم تدخر جهداً أو وسيلة من الوسائل التي تضمن لها الفوز بها إلا استخدمتها، فهي تدرك أن المخاطر التي يمكن أن تنجم عن تلك الهدنة لا تتمثل في انفصال الفصائل المسلحة الأخرى عنها فهي في نهاية المطاف تعيش في ظلالها، أما الخشية الحقيقية فهي في انفصال المدنيين عنها الأمر الذي يكشفها أمام عمليات الاستهداف التي ستكون عرضة لها بشكل دائم، وفي تلك المعركة استخدمت جميع صنوف الترغيب والترهيب بدءاً من قذائف الهاون العشوائية التي تتحول إلى قنص دقيق في حال الاقتراب من المعابر مروراً بمهاجمة التظاهرات التي خرجت مطالبة بالخروج نحو حلب الغربية كما فعلت في حي الصاخور 20/10/2016، بل ذهبت نحو اشتباك مسلح مع فصيل يسمى «ذي النورين» الذي قال إنه خرج لحماية التظاهرات 21/10/2016 في حي بستان القصر والفردوس، وصولاً إلى إرسال رسائل تقول إن من يخرج هو خائن ومرتد وتجب محاسبته، وفي الترغيب عمدت النصرة إلى شحذ الهمم والنفوس لدى مقاتليها أو مؤيديها كالقول إن جيش الفتح قد استعاد مؤخراً أسلحة كانت قد قدمت إليه من السعودية قبل شهر ونصف الشهر أو القول إن ذلك الجيش قد تسلم مؤخراً أيضاً شحنتي صواريخ مضادة للطائرات وهو ما لم ترجحه أي مؤشرات دالة عليه، وإذا ما حصل فسوف يكون تطوراً خطيراً في الصراع الدائر في حلب ولربما تكون له تداعياته الإقليمية إن لم تكن الدولية أيضاً.
ارتكز صانع القرار في جبهة النصرة على تحدّي الخروج ومنع المدنيين من مغادرة أحياء حلب الشرقية على مجموعة من المعطيات منها أن ثمة متغيرات منتظرة سوف تحدث قريباً وهي كفيلة بتغيير المشهد الراهن، ومنها أن مسلسل العقوبات ضد الروس والسوريين قد انطلق فعلياً وهو لن يقف إلا بعد تحقيق مراميه التي من ضمنها إجبارهم على تغيير خططهم، وكذلك إلى حثّ السعوديين لتلك الفصائل على مواصلة القتال في سياق محاولة لكسب الوقت على الرغم من أن الرياض لا تهدف من وراء هذا الأمر الأخير إلى إبقاء حلب الشرقية تحت سيطرة النصرة فهي تدرك أن هذا قد بات أمراً صعباً إلا أنها تهدف من ورائه إلى منع انفراط عقد إدلب وجسر الشغور بعدما انفرطت الدرة الحلبية من ذلك العقد.
بالتزامن مع معركة الهدنة الحلبية تجري على بعد 400كم إلى الشرق منها معركة الموصل التي أعلن حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي عنها في 17/10/2016، وإن كان الأميركان قد سبقوه في التبشير بقرب وقوعها قبل بضعة أسابيع عندما ذهبت طائراتهم إلى قصف الجسور التي تربط مدينة دير الزور بمحيطها وببعضها أيضاً، بدءاً من الجسر الأهم الذي كان يربط بين ضفتي المدينة 26/9/2016 ثم باستهداف جسور الميادين والبوكمال والعشاره والبصيرة والصالحية. لم يكن الهدف من هذا الفعل الأخير استهداف داعش وإنما توجيهها إلى المكان الذي يجب عليها أن تكون فيه وبمعنى آخر كان ضرب تلك الجسور أشبه بعملية تهيئة الأرضية الجديدة التي ستنتقل إليها داعش بعد انسحابها المؤكد من الموصل، وعبرها تم تقسيم الجسد الجغرافي الداعشي إلى جسدين الأول يقع شمال نهر الفرات وهو ما يسمى بالجزيرة والثاني يقع جنوب النهر ويسمى بالشامية، وعلى هذه الجغرافيا الأخيرة يقوم الرهان الأميركي الذي يقضي بتجمع فصائل داعش فيه تمهيداً لتمدده نحو البادية السورية، وما يؤكد هذه الفرضية نمطية الحرب التي قررتها واشنطن لخوض معركة الموصل وفيها تقرر الهجوم على شكل مستطيل مفتوح من أحد أضلاعه على الرغم من أن الأميركان كانوا قد خاضوا جميع المعارك السابقة مثل معركة منبج والفلوجة والرمادي بخطة الهجوم على شكل مربع مغلق، فالنمطية المتبعة في الموصل تصيب عصفورين بحجر واحد كما يقال، الأول: هي أنها تتيح تحقيق نصر عسكري سريع للأميركان عبر ترك منافذ آمنة لخروج المقاتلين، وهذا النصر يمكن تقديمه كهدية ثمينة لهيلاري كلينتون في معركتها الانتخابية المحتدمة حالياً، والثاني: هي أنها تتيح استعادة الموصل من دون القضاء على داعش الذي سيكون لازماً لاحقاً في الداخل السوري، وفي هذا السياق ذكر موقع «الرقة تذبح بصمت» أن قوافل داعش كانت قد وطئت أرض الرقة ودير الزور قبل شهر على بدء المعارك كما ذكر- وهذه معلومة بالغة الأهمية- أن داعش لم يسمح إلا لقياداته بالتوجه نحو مدينة الرقة، أما المقاتلون والأسلحة الثقيلة ومخازن الأسلحة فقد تم توجيهها إلى دير الزور.
يقرأ سلوك داعش الأخير المشار إليه أن قياداته قد قرأت جيداً ما يجول في الذهنية الأميركية ليس ذلك فحسب، بل اتخذت قراراً بالاستجابة إلى المخطط الأميركي تجنباً لتدمير تام، وهذا الأخير- كما تقول العديد من المؤشرات- يعمل على إجبار مقاتلي داعش الهاربين من الموصل إلى دير الزور وتحديداً إلى جنوبها (الشامية) المنفتح على البادية السورية والممتد حتى أقصى الجنوب السوري والتموضع فيه كنقطة انطلاق نحو جغرافيا شاغرة تمثلها البادية السورية، التي تمتد لمساحات هائلة وتؤمن وضعاً دفاعياً ممتازاً لأن ملاحقة الفصائل فيها يتطلب حشوداً برية هائلة، أما استهداف المقاتلين فهو يرفع من سقوف تكلفة قتل الواحد إلى درجات عالية يصعب تحملها طويلاً، وما يدعم ايضاً هذه الفرضية السابقة هو أن مقاتلي داعش المنسحبين من أمام «درع الفرات» التركية يتمركزون في ريف حماة الشرقي المنفتح هو الآخر على البادية السورية. أيضاً تخوض داعش معارك شرسة ضد جيش الاسلام في ريف القلمون بهدف الوصول إلى حدودها المتصلة بالريف الشرقي لهذا الأخير، ولذا فإنه من الجائز القول إن البادية السورية قد باتت «جغرافياً مسموحة لداعش أميركيا» أما المصلحة الأميركية في ذلك فهي تقوم على إمكان تحويل تلك البادية إلى منطقة استنزاف كبرى للجيش السوري وللروس ايضاً في استعادة للمشهد الأفغاني 1980- 1989.
داعش اليوم لا يسعى إلى التمكين في الموصل وإنما يعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مقاتليه فيها، إلا أن ذلك لا يعني أنه يعيش حالة يأس كبرى فالآمال لا تزال قائمة ما دامت الذهنية الأميركية احتوت على جغرافيا شاغرة يمكن أن يقوم عليها، وهو لو كان في حالة يأس فعلاً لما ذهب إلى تسليم معمل الكبريت (أطراف الموصل) الذي سيطرت عليه القوات العراقية يوم 21/10/2016 بعدما كان داعش قد هدّد بإضرام النار فيه والتسبب بكارثة إنسانية إذا ما اقتربت القوات العراقية منه.
على الرغم من أن معركة الموصل سوف تكون لها تداعيات سلبية على الداخل السوري إلا أن تحريرها يبقى في الإطار العام أمراً إيجابياً مهماً لاعتبارات عديدة لعل أهمها يتمثل في دحر الإستراتيجيا التي استطاع تسويقها في أوساط مقاتليه ومؤيديه بأنه «باقٍ ويتمدد» الأمر الذي يمثل خطوة أولى في تصدّع بناه الداخلية في حال انقطعت عن شرايينه السيرومات التي تمنحه البقاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن