ثقافة وفن

شجرة بطم من البلعاس شكلت روحه .. خضر عكاري لـ«الوطن»: سلمية الهواء الذي أتنفسه ودفق ماء تبشر بغلال

| عامر فؤاد عامر

يلقب بشاعر البلعاس، في تاريخه رصيد كبير من القصائد التي لا يمكن لمتذوق الشعر أن يمر عليها إلا والتوقف بها تمعناً بمواضيعها، صدر له عشرة دواوين وكانت بداياته في التجربة مع القصيدة في السبعينيات، وفي رصيده أيضاً ثلاثة دواوين في شعر الأطفال، الشاعر «خضر عكاري» وفي حديثٍ لـ«الوطن» يذكر لنا علاقته الخاصّة مع الشعر بعد تجربة مهمة سطرها بهموم الإنسان السوري وصدرها بكلّ محبة وإنسانية.

ما سرّ علاقتك بالبلعاس؟ لماذا كل هذا الحب لهذا المكان؟ نجد لديك ديواناً باسم سيرة البلعاس، وقصيدة بلعاسيات وهي ديوان مستقل، وقصيدة أيضاً هو البلعاس مداي الشعري؟
سرٌّ لا يحتمل الاختفاء وراء شجرة بطم من البلعاس، حالةٌ تؤرّقني كعاشقٍ وعشيقة، إنها حميمية التلاقي وانهمال النص في شراييني، هاجسٌ لا أدري كيف يفيضُ ينبوعاً، ويصيرُ هادراً كفيضانٍ اعتادته «سلمية» من زمانٍ أن يدخل في كلِّ أبعادها، جالباً شهوة المواسم!.
هو المكان الذي استوطَنَتْ، وستظل فيه أشعاري، إنه الهواء الذي أتنفسه، ودفقُ دماءٍ تبشّرُ بغلالٍ، وبيادرَ من حنطةٍ وحبٍّ وعطاء.
وكيف لا يكون لحبيبي «البلعاس» الشغلُ الشعري ويركنُ على بياضٍ تراوده السطور، ماسحةً عن مآقيه دموع الفرح؟ وكيف لا يكون- هو البلعاس مداي الشعري؟!

ماذا يعني لك لقب شاعر البلعاس ومن لقَّبك به؟
أحياناً يتبارى البعضُ ويسألون عن البلعاس، هذا المتنفّسُ الطبيعي لمدينتي التي أحبها كما يحبُّ النبعُ مجراه، وتحبُّ الخراف راعيها وعشب البراري!
شاعر البلعاس، وبلا منازع أو…؟! هو الشاعر «خضر عكاري» الذي أوصله إلى العالمية، ومن دون مبالغة، عندما ارتوى حتى الثمالة من محليّته، في كل المهرجانات، والأمسيات، والندوات وحتى «القعدات» في الليالي المقمرة، يقولون: نقدّم إليكم شاعر البلعاس، صار كلّي الشعري وهويتي، هكذا لُقّبتُ بشاعر البلعاس من أصدقائي ورفقائي الشعراء، وحتى الناس العاديون يشيرون قائلين هذا شاعر البلعاس فأهلاً وسهلاً.

يحمل الشعر شيئاً من النبوءة فأين تتجلى هذه الزاوية في شعرك؟
الشعرُ نبوءةٌ وسيرورة الزمان والمكان، واعتمالٌ في هيجان الدهشة، والومضة الراعدة، يتخطى حدود الممكن، ويروح إلى مطارح لا لغير الشاعر، تراوده المسافات المشغولة بالأرض والإنسان، والنياشين من القيم التي تتواصى بالحقِّ والخير والجمال…، فالنبوءة فتنةٌ طاغية تتولى شاعرها، والحلم المساير لتطلّعات انهماكاته الحياتية.

كيف لك أن تحيي قصيدتك بعد أن تكتبها على الورق إذ يقال إن جمالها ينتهي بولادتها المادية في ديوان؟
القصيدةُ ولادةٌ، وصراخٌ رائع النبرات، إنه الجيشان الفائرُ في تقاسيم التفاكر، والقاطن في تجاعيدِ الحبيبة «الأرض» لا تفقد القصيدةُ رونقها، ولا يتماهى بهاؤها، أو يخدش النسيانُ جدرانها المعجوقة بعبق وعرق إنسانها، إنها الولادة التي شغلت الناس ولم تقعدهم كما قيل..
فالقصيدةُ جميلةٌ وهيّامةٌ وصهيلُ مهرٍ تتلهّى بضجيج حوافرها، وتحرنُ وقتَ يجبُنُ «فارسها» وتجندله على الأرض رافضةً أن يعتلي سرجها إلا الفارس الملطخ بدماء الانتصارات؟!

نلاحظ سمة الإخلاص في شعرك فهناك هدف في قصائدك كما كتبت للماغوط وللخابور ولعروة بن الورد ولسلمية ولديك الجن وغيرهم… فماذا منحك زمنك في كل هذا الإخلاص؟
القصيدةُ لدي عصيةٌ، تقلقني قبل وبعد ولادتها على الورق هي تومئ لمجيء إبداعٍ ما تناولهُ آخر من الشعراء، ترمش بالحبر على بياض احتراقها، ويندلع الحريق، وتجمّر آخر المشوار بحضن موقدٍ جبلته أمي بيديها، ومازال الدفء يلفحني كلما جاء صقيعٌ محمّلٌ على هوادج التشاريق والتغاريب!
فالشاعر «الماغوط» أكبر من أن ترثيه أو تمدحه قصيدة، فهو الأب الشرعي لأجيالٍ من شعراء السبعينيات، وحتى أبد الآبدين «محمد الماغوط» يكفيه ما أبدع، وما قال، لكنه سيق إلى السجن، لكونه ينتمي نبضاً وشعراً وإبداعاً إلى الأمة السورية، إلى شآم إلى الهلال الخصيب، وعتبي على «أبو شام» أنه لم يجاهر بدعواه قائلاً وعلى الملأ: سجنت لكوني أنتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي! وروافد الخابور والمواسم وضحكة الأرض في البيادر.
وعروة بن الورد هذا الشاعر الصعلكة الذي وهب حياته لجياع الأرض من فراعنتها.
ديك الجن «السلموني» الذي انتشى من خمور كروم سلمية أيام الهاشميين، ديك الجن الذي أبكانا، وبكى على حبيبته «ورد» التي ذُبحت بخنجرمكيدةٍ لئيمة من صغار اللؤماء.
قالوا تحبُّ سلميا ويلكم ولهي… اللـه يدري ويدري اللـه ما خلقا
لو خيروني كنوز الأرض أرفضها… قهراً لعينيك جار القلب وارتهقا
بلعاس دغدغ بالبطمات مشرقها… والبحر من غربها شوقاً لها شهقا
لم أنتظر من أحد أوسمةً أو أو شكراً أو عتباً… فهذا أقل من واجبي تجاه البدّع من الشعراء من بلدي.

على من تعتب اليوم؟
أعتب على الناكرين وبحقد شخصي على «خضر عكاري» واللؤماء وفاقدي الإحساس، الذين يدّعون أنهم وصلوا ولكنّهم يا للأسف تعرّى كل شيء والمرحلة غربلت. وهم كما قال الفيلسوف السوري «أنطون سعادة» مزابل التاريخ أولى بهم.
فاستيقظوا يا بعض أصحابي يدي وقلبي وكلّي ممدودةٌ إليكم… فلا تستغلوا مناصبكم الواهية في الصحف والمجلات والدوائر.. والــ.. فلا يخفى علينا شيء.

في كتابك «من تنهدات المراعي» وردت قصيدة طويلة عن الشاعر محمد الماغوط تذكر فيها أسرته، فكيف كانت علاقتك به؟
علاقتي مع الماغوط رحمة اللـه عليه علاقة الأرض بالمطر، بين بيتي وبيته فقط «شلفة حجر» كما يقولون، جيرانٌ وأحباء، نحن من ضيعةٍ صغيرةٍ ومنعرف بعضنا، والماغوط يستأهل ليس حديقة باسمه في سلمية مسقط رأسه، يستأهل أن يكون من ألوان هلالنا الخصيب «سوريانا».

لك تجربة في الموزون وفي التفعيلة وفي الومضة… أين تجد تماسكك الأكبر بين هذه الأنواع؟
في جميعها لي معها تجربةٌ وتجارب شعرية، لكنني أرى حالي الشاعر وقصيدتي في الومضة لأنها الدهشة الاختزال الصورة والابتعاد بقدر الإمكان عن المألوف فقصيدتي تتجلى في «البرق والرعد والمطر».

في التجربة الشعرية للأطفال خصوصية… ماذا تقول عنها وهي تلامس وجه البراءة واليوم وجه البراءة لونه دخان البارود ليصبح كالحاً؟
أطفال المرحلة التي تمر فيها «سوريتي» الآن من حبلّة وروائح البارود، ينامون ويستيقظون والرعب يحاصرهم، أو يخدش أحلامهم، والكتابة للأطفال من أصعب الكتابات قاطبةً، أن تعود طفلاً وأنت تكتب إليهم.

ماذا ترى في أجيال جديدة تكتب الشعر؟ ماذا تنصح أولئك الجادين وكذلك المستسهلون؟
لستُ بناصحٍ أحداً، ولست واعظاً، هم يستهزئون إذا وجهتُ بعض النصائح إليهم، هم لا يقبلون أحداً، والشاعر لا ينتظر أحداً، فالقصيدةُ هي الحكم الفصل، والمتلقي المتابع جزء من الشاعر والقصيدة. لا يقبلون أحداً حتى لو كان أدونيس والماغوط لذلك أرجو أن تعفيني وتعتقني من الإجابة عن هذا السؤال.

متى سيكون لنا موعد مع إصدار جديد للشاعر خضر عكاري وما اسمه؟
بين يدي شغلٌ شعريٌ وامضٌ «الومضة» بعنوان «من المزامير العكارية» نحو 800 صفحة. أتمنى أن يرى النور في هذا الزمن الأعمى من دون الدفع مقدماً، ومن دون الباقي على دفعات، وأنا بانتظار من يجرؤ على المجيء ويرى.. لأنني أرى كما يرى النائم آلاف المجموعات الشعرية تصدر، لناسٍ لا علاقة لهم بالشعر من قريب ولا من بعيد وإنما.. وإنما أخشى أن أقول الذي في قلبي…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن