قضايا وآراء

موسكو: أعذار القرار

| عبد المنعم علي عيسى 

كانت طريقة تعاطي فتح الشام وأحرار الشام مع الهدنة التي أعلنها الجانبان الروسي والسوري من طرف واحد (20-23/10/2016) تؤكد أن تلك الفصائل ماضية في خيارها العسكري وساعية في الآن ذاته إلى الخروج من الشرنقة ولو بخيار الهجوم على نمط «صولد»، فالحصار بات يأكل من الذات ناهيك عن أن المدنيين الذين استخدموا كرهائن ضامنة للبقاء يريدون الخروج إما بتسوية وإما بفك الحصار.
فجر يوم الجمعة اقتحمت ست سيارات مفخخة خطوط دفاعات الجيش السوري في ضاحية الأسد ومحيطها في الحمدانية بعد أن قامت الفصائل المسلحة بتنفيذ رمي تمهيد مدفعي بصواريخ غراد على مدى ساعتين متواصلتين تلاه هجوم نفذه انغماسيو التركستان ليخرج عبد اللـه المحيسني معلناً أن ذلك كله في إطار الإعلان عن (ملحمة حلب الكبرى) التي توافرت دواعي قيامها بعد تمويل سعودي خليجي لشراء 100 صاروخ ثقيل أضيفت إلى ترسانة النصرة السابقة من صواريخ غراد التي استحصلت عليها على مدار الأشهر الثلاثة السابقة.
سجلت الـ48 ساعة الأولى على بدء المعارك اضطرار الجيش السوري إلى التراجع عن خطوط دفاعاته باتجاه خطوط أخرى أصبحت في مشروع الـ1070 ومشروع 3000 ومناشر منيان، وهنا تجدر الإشارة إلى أن المسافة بين الخطوط القديمة وتلك الجديدة لا تزيد على بضع مئات من الأمتار على الرغم من أهمية هذا الأمر والتي لا تقاس فقط بهذه المقاييس وحدها، كما سجلت امتناع غرفة عمليات حميميم عن تقديم الإسناد الجوي اللازم لصد الهجوم واحتوائه، وخصوصاً أنه كان في أغلبيته ذا طبيعة انتحارية أو انغماسية بالتزامن مع هجوم صاروخي كثيف، كان المبرر الذي قدمته الغرفة لذلك الموقف هو أن الفرصة الآن هي لاستمرار الهدنة وسحب المصابين وتحسين الأوضاع الإنسانية في حلب، ولا شك أن الجيش السوري يتلاقى معها في هذا الموقف الأخير.
بعد ساعات من تأكد خبر عدم مشاركة غرفة عمليات حميميم في تقديم الإسناد الجوي خرج وزير الخارجية الروسي من اجتماع ضمه في موسكو إلى جانب نظيريه السوري والإيراني ليعلن أن (موسكو ماضية في محاربتها للإرهاب في سورية حتى النهاية)، لكنه أضاف: «إن الحرب على الإرهاب يجب ألا تنسينا العمل على تحسين الأوضاع الإنسانية أو العمل على إعادة إطلاق العملية السياسية من جديد»، هذا الموقف الروسي لا يحمل جديداً، فموسكو وفي ذروة عاصفة السوخوي كانت أول الداعين لإطلاق العملية السياسية وهي لم تتدخل عسكرياً إلا لحمل أطراف الصراع المتشددين إلى طاولة المفاوضات، وكل ذلك معلن.
بعد ساعات على تصريحات لافروف أعلن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن بوتين رفض طلباً تقدّمت به هيئة أركان القوات المسلحة الروسية لمواصلة الضربات الجوية ضد الفصائل المسلحة في حلب، لأن بوتين -بحسب الناطق- يرى أن هذا الأمر لن يكون مفيداً في الوقت الراهن لأنه يأمل أن الهدنة المعلنة منذ 20/10/2016 سوف تكون فرصة سانحة للمسلحين الراغبين في الخروج، وفي الآن ذاته فرصة للأميركان للقيام بالتزاماتهم فيما يخص الفصل بين الفصائل المسلحة «المعتدلة» وتلك الإرهابية، وفي التحليل تبدو دوافع القرار الروسي نابعة من أحد أمرين اثنين، الأول هو ازدياد الضغوط الدولية على موسكو فيما يخص الوضع في حلب ولربما أرادت عبر استمرار تعليق الضربات استنفاد جميع الأوراق الضاغطة والمستخدمة من الغرب ضدها، والثاني أن موسكو فضّلت التريث لاتضاح الصورة بدرجة أكبر مما هي عليه بعد ورود تقارير تؤكد وصول صواريخ أميركية مضادة للطائرات إلى أيدي المسلحين في حلب وهو أمر كانت قد أكدته ماريا زاخاروفا نفسها أمام الصحفيين في مؤتمر عقدته 27/10/2016.
كان الهدف المعلن لمعركة حلب الكبرى هو كسر الحصار أو فتح ثغرات فيه إلا أن هذا الهدف الأخير لا يمثل الغاية الأهم، فكسر الحصار أو فتح الثغرات هو أمر يبدو غير قابل للتحقيق، وإن تحقق فسوف يكون من الصعب الاحتفاظ به، وثغرة الراموسة لا تزال ماثلة في الأذهان (آب 2016) فقد تمّ إغلاقها في وقت قصير لا يتجاوز خمسة عشر يوماً، ناهيك عن أنها لم تؤدِ إطلاقاً المهمة المتوخاة منها، أما الغاية الأهم فالراجح أن الفصائل المسلحة قد استقرأت شيئاً مهماً فيما يخص الموقف الروسي (ولربما كان ذلك معلومات واردة إليها) فارتأت جرّ الجيش السوري إلى حرب استنزاف طاحنة أو حرب شوارع منهكة، الأمر الذي يفرض على هذا الأخير تغيير قراره بالتوجه نحو مدينة الباب التي قال عنها أردوغان مؤخراً في اجتماع له مع المخاتير 26/10/2016: «إن الهدف من درع الفرات هو السيطرة على مدينتي الباب ومنبج» ولذا من الجائز القول إن ملحمة حلب الكبرى كانت بقرار وتوقيت تركيين.
بات من المؤكد أن ثمة متغيرات كبرى قد جرت في الزيارة التي قام بها فلاديمير بوتين إلى أنقرة مؤخراً 10/10/2016 لجهة التفاهمات التي حققتها الزيارة، فتصريح من هذا النوع الذي أطلقه أردوغان مر مرور الكرام من دون أن تلحظه الرادارات السياسية الروسية التي لم يصدر عنها أي تحذير، الأمر الذي لم يكن متوافراً لأردوغان ما قبل قمته مع بوتين المشار إليها، كما من المؤكد أن تلك التفاهمات كانت قد جرت بعلم دمشق وموافقتها أيضاً إلا أن ثمة متغيرات ناجمة عن اللعب التركي خارج حدود الملعب باتت مغلقة لدمشق ومن الممكن تلمس هذا القلق في الغارات التي نفذها سلاح الجو السوري ضد وحدات عائدة للجيش الحر تعمل تحت خطة درع الفرات 26/10/2010، ومن المرجح لذاك القلق أن يتنامى في ظل أحاديث أردوغان مع المخاتير والتي باتت تجري أسبوعياً كما يبدو والتي جاء في آخرها على ذكر «العقد الوطني التركي» معتبراً تخلي أردوغان عن حلب والموصل خيانة وطنية لذاك العقد وللشعب التركي.
بات أردوغان عنصر اضطراب وفوضى في المنطقة بل إن وجوده وحجمه باتا مرتبطين بالكم الذي يمكن له أن يصدره من ذينك الشيئين، وهو غير ما يحمله من إيديولوجيا ورؤية لا تعود لتصريحات يمكن أن يطلقها من نوع «الموصل للموصليين» أو «حلب للحلبيين» أي أهمية تذكر ففي المقابل كان قد قال إن الموصل- وكذا حلب- كانت لنا».
من يوقظ هذا الذي لا يعرف من التاريخ سوى الأشياء التي يريدها؟ أو الأشياء كما يحب أن تكون؟ هل يدرك أردوغان أن بلاده برمتها كانت تحت سلطة الدولة العباسية ومركزها بغداد؟ هل يعني هذا أن بإمكان حيدر العبادي المطالبة باستعادة السيطرة على بلاده ثم هل يدرك أن درة بلاده «اسطنبول» ليست إلا القسطنطينية تلك القلعة الغربية المسيحية التي تمت السيطرة العثمانية عليها العام 1453م؟ أو هل يدرك أن أجداده لم يطؤوا الأرض التي يسكنها الأحفاد الآن إلا في القرن العاشر الميلادي؟
كل ما يقوم به أردوغان اليوم يستند إلى رؤية مفادها أن تركيا قوية وأن جيرانها العرب ضعفاء والوضع الناجم عن المعادلة السابقة يبرر له السعي نحو تحقيق مطامع جغرافية بعد أن يتم سترها بثياب تاريخية مهترئة على النمط الإسرائيلي في فلسطين، إلا أن تلك الرؤية ليست دقيقة كثيراً هكذا، فالقوة التركية متماسكة ظاهرياً، على حين أن النخر قد اخترق طبقات مهمة من أنسجتها وهو يتابع –عبر سياسات أردوغان- حثيثاً إلى الأعماق ومن الراجح أن تركيا اليوم هي أمام أحد سيناريوهين: الأول حدوث انقلاب ثان قبيل أن ينقضي هذا العام، أما نجاحه أو فشله فهو أمر مرتبط بالموقف الأميركي الحقيقي منه، والثاني أن تدفع الاحتقانات الداخلية التي تغذيها الزلازل الخارجية إلى قيام حرب اتنية داخلية أو عرقية تطيح بالكيان التركي على شاكلة السيناريو اليوغسلافي (1994-1999) ولشدما تتشابه التركيبتان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن