قضايا وآراء

مؤشرات إقليمية على تغيرات دراماتيكية في موازين القوى

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي 

ظل لبنان تاريخياً ولظروف موضوعية الترمومتر الدقيق الذي يمكن من خلاله تقدير اتجاهات التغير في موازين القوى في الإقليم، فالنظام الطائفي اللبناني يتألف من مجموعة من القوى السياسية التي تشكل امتداداً للمحاور والدول الكبيرة على مستوى الإقليم، لذلك لم يكن غريباً أن تنطلق الحملة الأميركية الهادفة لتركيع سورية أو إسقاطها عقب غزو العراق عام 2003 من لبنان، تلك الحملة الشرسة التي انتهت إلى الحرب الحالية المدمرة كانت قد بدأت من لحظة صدور القرار 1559 وتجمع قرنة شهوان والخروج الصارخ للنائب وليد جنبلاط من صف حلفاء سورية إلى الخندق الأول في التحريض عليها انطلاقاً من رهانه على قرب الانهيار السوري أمام الهجوم الأميركي القادم، لذلك نستطيع أن نعتبر انحصار قائمة الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية اللبنانية خلال الأشهر القليلة الماضية باسمي (العماد ميشيل عون والوزير سليمان فرنجية) وهما مرشحان حليفان لمحور المقاومة، ثم رسو الترشيح أخيراً على العماد عون، الذي أصبح بدءاً من يوم أمس الأول رئيساً للبنان بدلالة واضحة على تضاؤل الرهانات على انتصار المحور الحليف للولايات المتحدة الأميركية، وعلى تعاظم الرهان على انتصار محور المقاومة الذي أصبح مدعوما مباشرة بقوة عظمى هي روسيا التي قامت بأكبر حركة لأساطيلها منذ انتهاء الحرب الباردة نحو السواحل السورية، وتحولت بذلك إلى القوة العسكرية الأولى في مياه البحر المتوسط، ورفعت مستوى التحدي إلى درجة التهديد بإسقاط الطائرات الأميركية في حال تكرار اعتدائها على الجيش العربي السوري، وذلك كله تمهيداً لساعة الصفر التي ستعلن حسم معركة حلب، كما أن هذا المحور غدا مدعوماً بشكل غير مباشر من قوة عظمى أخرى هي جمهورية الصين الشعبية التي استخدمت حق النقض الفيتو 4 مرات خلال السنوات القليلة الماضية لمصلحة حماية موقف الدولة السورية في مجلس الأمن، وهو ما يمثل نصف مجمل عدد المرات الذي استخدمت فيه الصين هذا الحق منذ حصلت عليه، كما أن وزير دفاعها أعلن صراحة منذ بضعة أشهر أن (بلاده ستتكفل بمصاريف إعادة تدريب وتسليح الجيش الوطني السوري).
لقد فعلت القوى الحليفة للسعودية في لبنان كل ما يمكن أن يفعل من أجل عرقلة وصول العماد عون إلى منصب رئيس الجمهورية، وذلك نظراً لالتزامه الواضح بالانفتاح على سورية وبالتحالف مع حزب اللـه، ولما أثبته من صدق ذلك الالتزام الوطني خلال حرب تموز 2006 عندما أعلن أنه (يفضل أن ينهزم وهو متحالف مع طرف لبناني على أن ينتصر وهو متحالف مع عدو بلاده إسرائيل)، لكن حلفاء السعودية وجدوا أنفسهم في خاتمة المطاف مضطرين للخضوع لترشيح عون، وذلك بعد سنتين ونصف السنة من الشغور في منصب رئاسة الجمهورية، الذي تسببت به تلك القوى، بعد أن حولت بلادها خلال سنوات الحرب الثلاث الأولى إلى أحد أهم معبرين للسلاح إلى الإرهابيين في سورية، رهاناً منها على إمكانية سقوط قريب للدولة السورية يرفع من حظوظها في السطو على القرار السياسي اللبناني خدمة لمشغلها السعودي.
إضافة إلى المؤشر اللبناني المهم على انحسار حظوظ أحد المحورين المتصارعين في المنطقة وتعاظم حظوظ المحور المقابل، يمكننا أن نرصد مؤشراً لا يقل أهمية وهو تورط النظامين الإقليمين الذين شكلا أكبر قاطرتين لمشروع الفوضى الأميركية في المنطقة، (نظاما الحكم السعودي والتركي) في المواجهة العسكرية المباشرة، وذلك بعد سنوات مارسا خلالهما عملية تدمير ممنهجة لكل من سورية والعراق وليبيا من خلف حدودهما، وعبر الاكنفاء بدعم الإرهابيين، من دون الاضطرار لدفع الثمن، فالسعودية اليوم وبفعل الاستنزاف اليمني تضطر للاقتراض لأول مرة في تاريخها، ويتوقع الاقتصاديون أن يشكل ميزانها التجاري عجزاً بقيمة 170 ملياراً للعام المقبل، وذلك من دون أي أفق بقرب حسم معركتها مع الشعب اليمني، أما نظام أردوغان فقد تورط في مواجهة عسكرية مزدوجة في كل من العراق وسورية، على حين هو يخوض صراعاً داخلياً شرساً مع تيار تصر الولايات المتحدة (حليفه المفترض) على إيواء زعيمه على أراضيها حتى اللحظة، ما يعطينا مجدداً تصورا لطبيعة التحالفات التي تعقدها منظومة السيطرة الغربية على العالم مع الأنظمة الحاكمة في منطقتنا، فهي أقرب للاستخدام من طرف واحد، منها للتحالف المتكافئ، حيث يجري استخدام النظام المتحالف مع الغرب حتى الاحتراق الكامل، دون أي استعداد للقتال إلى جانبه، وخصوصاً في مرحلة ما بعد جورج بوش الابن حيث أصبحت الولايات المتحدة عاجزة عن خوض أي تجربة حرب مباشرة جديدة، لذلك وجد أردوغان قواته التي أدخلها إلى سورية تقف في مواجهة مقاومة وطنية سورية وهي عارية من أي غطاء جوي بعد إعلان الجيش العربي السوري عن قرار إسقاط أي طائرة تركية تنتهك الأجواء السورية.
إن المشهد الفريد الذي شهدته قاعة مجلس الأمن منذ بضعة أيام خلال إلقاء مندوب سورية بشار الجعفري لكلمته، وما حدث خلال ذلك من مغادرة ممثلي الدول الغربية للقاعة، لهو مشهد دال في ذاته، فقد اعتدنا على أعصاب الدبلوماسيين الغربيين الباردة، وعلى ابتساماتهم الماكرة، على حين جيوشهم تسقط دولنا العربية، لكن الأمر اختلف في حالة سورية المدعومة بمحور المقاومة، فتراهم اليوم غاضبين وقد فقدوا أعصابهم، ينسحبون من مجلس الأمن ويتركونه لممثل سورية، بعد أن عجزوا عن طرده من مجلس الأمن كما فعلوا بممثل العراق وليبيا سابقاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن