قضايا وآراء

لا ضير في استمرار الهدنة الجوية الروسية

| عبد المنعم علي عيسى 

ثمة رهان واضح يتزامن مع الضغوط العسكرية التي ما انفكت تتزايد يوماً بعد يوم بعد انتهاء هدنة الطرف الواحد 23/10 والتي تعتمد تكتيك القضم الجزئي والمتواصل، رهان على حالة الغليان التي تعيشها الفصائل المسلحة من الداخل وكذلك التركيبة المحيطة بها في أن تدفع تلك الحالة نحو تحولات مهمة تفضي إلى تسوية شاملة من حلب، ولربما يمكن القول إن ذلك الرهان قد أعطى أولى ثماره في البيان الذي أصدرته جبهة أنصار الدين مع فيلق الشام 9/11 والذي أعلنت فيه عن استعدادها للتفاوض حول الهدنة التي تضمن لمقاتليها ملاذات آمنة.
أهمية ذاك البيان بغض النظر عما يمكن أن ينتهي إليه هي في التمرد على قرارات جبهة النصرة التي تدرك أن فتح ثغرة في خطوط دفاعاتها السياسية هو أخطر بكثير من فتحها في خطوط الدفاع العسكرية، إضافة إلى أن ذلك قد يؤدي إلى انفراط عقد التحالفات كله ما يعني انكشافها أمام الاستهداف الإقليمي والدولي على الرغم من استمرار صوم سلاح الجو الروسي، إلا أن ذلك لم يكن يعني أن موسكو بعيدة عن مجريات ما يجري في حلب ومن المؤكد أنها تتابع تلك المجريات بدقة متناهية. تقول الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا 8/11 «إن المجالس المحلية في أحياء حلب الشرقية تعمل على تأجيج العنف» وهو تصريح مهم يشخص بشكل دقيق الحالة القائمة في تلك الأحياء التي باتت رهينة لمجالس هي عبارة عن فعاليات مرتبطة إما بفتح الشام وإما بأحرار الشام وهي تجني بسبب ذلك الارتباط أموالاً باهظة عبر الاستثمار في جوع الناس أو عوزهم لمختلف حاجات الحياة، الأمر الذي تهيئه حالة الحصار ولذا فإنها ستكون بالتأكيد ضد أي تسوية يمكن أن تطرح وهي لذلك تعمل على تأجيج العنف واستسقاء الدماء.
ما يسمى المجالس المحلية هو تركيبة تمثل الغطاء الذي تتم عبره عمليات النهب والسرقة ولعل من المفيد أن نسلط الضوء على أبرز رموز تلك المجالس إذا ما أردنا فهم الدور الذي تقوم هذه الأخيرة به منهم مثلاً خالد حياني (قتل في نيسان 2015) الملقب بـ«لص المعامل» وبالملياردير الصغير وهو مؤسس لواء شهداء بدر التابع للجيش الحر ومنهم أيضاً أحمد عفش الملقب بالملياردير الكبير الذي سرق معامل الليرمون، وهو مؤسس لواء أحرار سورية، ومنهم أبو خلف المغارة الملقب بأمير الاقتحام (قتل في أيار 2015) ومحمد حبّو وياسين جولاق والسلسلة تطول.
هذه الدراية الروسية الدقيقة تجعل من الضروري التمعن بقول الرئيس الروسي الذي جاء فيه: «إنه يرى هذا الأمر (يقصد وقف غارات سلاح الجو) حالياً هو الأنسب فهو يحمل في طياته رهاناً سياسياً وآخر عسكرياً، ففي الأول يرى الروس أن استمرار هذا النهج سوف يدفع بالأطراف الداعمة للنصرة نحو التخلي عنها ولربما أتى هذا الأمر أكله التركي عبر دعوة أردوغان للنصرة الشهر الماضي إلى الخروج من حلب الشرقية على الرغم مما يشوب تلك الدعوة التي يمكن أن تكون «مشفرة» ولربما أيضاً أتى أكله الأميركي عبر ما نشرته صحيفة الواشنطن بوست 10/11 والذي قالت فيه إن الرئيس الأميركي قد وجه قيادات البنتاغون بضرورة استهداف قيادات جبهة النصرة ولربما كان هناك رابط بين فشل ملحمة حلب الكبرى وبين الإعلان عن استهداف النصرة.
وفي الرهان الثاني (العسكري) يريد الروس إرسال رسالة إلى تلك الفصائل التي ترفض التسويات مفادها أنه ولو انتفت مشاركة سلاح الجو الروسي (كما هو حاصل حالياً) فإن ذلك لن يؤدي إلى تغيير المعادلات العسكرية القائمة التي لم تعد قابلة لأي تعديل وهو ما تؤكده التقارير الميدانية، ففي 12/11 أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان أن الجيش السوري قد استعاد جميع المناطق التي كان قد خسرها في معركة ملحمة حلب الكبرى.
هذا الرهان بات اليوم ذا مدى أبعد بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فموسكو لم تعد مضغوطة بأسابيع أو أشهر هي مدة بقاء باراك أوباما في السلطة بل على العكس فإنها ترى أن ثمة توافقاً أميركياً- روسياً مع وصول الرئيس الجديد وهو أمر من شأنه أن يؤدي إلى انفراج في مختلف نقاط التماس الساخنة، إذ ليس سراً أن الإدارة الأميركية الحالية لا تزال تقف ضد استهداف جبهة النصرة لأنها تمثل بالنسبة إليها حالة احتياج ضرورية يمكن لها من خلالها فرض نفوذها في الساحة السورية والبقاء كلاعب لا غنى عنه في أي تسويات يمكن أن تشهدها تلك الساحة، هذه الحالة مرشحة للانقلاب، وأقله هناك رهان على حدوث هذا الأخير، أما فيما يخص الموقف التركي من جبهة النصرة فهو على الأرجح موقف مرحلي أو مؤقت ولو كانت دعوة أردوغان لها بالخروج من حلب حقيقية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال القول بوجود قرار نهائي تركي بالتخلي عنها وهو ما يؤكده العديد من السلوكيات والتصريحات التركية التي كان آخرها ما نقلته وكالة رويترز 10/11 عن أردوغان الذي كان يتحدث في الذكرى الـ/78/ لوفاة مصطفى كمال أتاتورك، فقد خرج إلينا بمفهوم جديد للحدود ميّز فيه بين نوعين الأول هو الحدود الطبيعية المتعارف عليها، أما الثاني فهو الحدود «العاطفية» ثم أضاف «لا يمكن لنا أن نسجن داخل الـ/780/ ألف كم2 ولا يمكن لنا نسيان إخواننا في القرم والقوقاز وحلب والموصل الذين قد يكونون خارج حدودنا الطبيعية إلا أنهم بالتأكيد ضمن حدودنا العاطفية، التصريح واضح وهو يدعو إلى تراصفات مذهبية في المنطقة لإعادة خلط الأوراق فيها وهو ما يرى فيه أردوغان مناخاً ملائماً لتحقيق مكاسب لم يستطع تحقيقها على امتداد ست سنوات من عمر الأزمة السورية.
باختصار يمكن القول إن الموقف الدولي من جبهة النصرة لا يزال ملتبساً ومن الصعب تحديده بشكل دقيق، هذا الأمر لا ينطبق على حال تنظيم الدولة الإسلامية الذي بات يدرك أن قرار دحره من الموصل والرقة قد اتخذ ولا رجعة فيه، إذ لم يكد يمضي أسبوعان على بدء معركة (قادمون يا نينوى) لتحرير الموصل التي أطلقها حيدر العبادي 17/10 حتى انطلقت معركة دحر التنظيم من الرقة 6/11، ولربما يمكن لنا القول إن التسجيل الصوتي الذي بثته مؤسسة الفرقان الذراع الإعلامية لداعش 3/11 «لأبي بكر البغدادي كان بمنزلة حالة قبول واضحة بتفكك دولة (الخلافة الإسلامية)» والعودة إلى التنظيم أي إلى ما قبل 9/4/2014، وبمعنى آخر العودة إلى العمل في الأنفاق والنزول تحت الأرض ما دام في المخيلة الأميركية متسع لدور جديد لهذا الأخير وإن كان ذا طبيعة ونكهة مغايرة بينما انطلاقته الجغرافية ستكون –على الأرجح- من أعماق الصحراء السورية ولربما العراقية أيضاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن