من دفتر الوطن

نفير سورية… الآن

حسن م. يوسف : 

 

أصارحكم أنني كلما قرأت أكثر، ازددت معرفة بجهلي. خلال الفترة الماضية ركزت قراءاتي حول ما سُمِّي «طوشة الستين»، لأنني أنوي كتابة عمل أدبي حول ملابسات الفتنة الطائفية التي عصفت بلبنان والشام قبل 155 عاماً.
يعلم قارئي المتابع أنني لست من أنصار نظرية المؤامرة، لكن عندما تكون المؤامرة أمامك ولا تراها، فأنت أسوأ من الأعمى! صحيح أنني لم أعثر على أي وثائق رسمية تثبت بشكل واضح وصريح تورط فرنسا وبريطانيا في تدبير مجريات «طوشة الستين»، إلا أنني كلما قرأت أكثر عن تلك المرحلة أزددت اقتناعاً أن هاتين الدولتين كانتا بحاجة لمبررات قوية للتدخل في شؤون السلطنة العثمانية «المريضة» وليس من حجة تحقق لهما هذا الهدف أقوى من «حماية المسيحيين»، وهذه «الحماية» لا يمكن أن تكون مبررة إلا إذا كان هؤلاء في خطر!
وقد وقعت على معطيات عديدة جعلتني أقتنع في دخيلة نفسي بأن فرنسا وبريطانيا أسهمتا من خلال ضخ المال في زيادة الاحتقان بين طوائف لبنان والشام، لأنهما كانتا تخططان لاقتسام المنطقة منذ ذلك الوقت! ولا تختلف تلك الحجة القديمة كثيراً عن قصة أسلحة الدمار الشامل الملفقة لتبرير غزو العراق، الذي كان مقدمة لكل الويلات التي تجري في منطقتنا الآن.
من بين كل ما كتب عن «طوشة الستين» أود أن أتوقف عند جريدة «نفير سورية» التي أصدرها آنذاك الأديب والمؤرخ الموسوعي اللبناني بطرس البستاني الذي يُعَدُّ قطبًا من أقطاب النهضة العربية الحديثة. كان البستاني يلقب بـ«المعلم بطرس»، في إشارة غير مباشرة لمكانته العالية بين مفكري عصره، فالمعلم الأول هو أرسطو، وابن خلدون هو المعلم الثاني، وقد استحق البستاني لقب «المعلم» لأنه من أوائل من نادَوْا بتعليم المرأة، وأول من ألف قاموسًا عربيًّا عصريًّا مطوَّلًا، وأول من ألف موسوعة عربية سماها دائرة المعارف.
لم تكن «نفير سورية» جريدة بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كانت نشرة صغيرة من صفحتين تحوي رسائل وطنية مكتوبة بلغة مفهومة وأسلوب واضح، موجهة إلى المواطنين السوريين «لشد عرا الألفة والمودة بين الناس». وقد ظهر في هذه النشرة ثلاثة عشر نفيراً في الفترة بين أيلول 1860 ونيسان 1861. وقد أراد البستاني من خلال جريدته «نفير سورية» أن يقرع جرس الإنذار لإيقاظ السوريين من خطر الحرب الطائفية التي كانت تعصف بوطنهم.
قال البستاني في افتتاحية العدد الرابع من «نفير سورية» المنشور في 25 تشرين الأول 1860: «فسورية المشهورة ببر الشام وعربستان، هي وطننا… وسكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم، هم أبناء وطننا».
وقد كان البستاني سبّاقاً في إعلان هويته إذ أشار في افتتاحياته بوضوح إلى «الوطن السوري» و«الشعب السوري»، كما ناشد مواطنيه السوريين الترفع عن قضايا الانتماء الديني المذهبي، وإظهار التسامح والألفة والمحبة. فقال للطائفيين موبخاً: «ألا تأكلون كلكم نفس الأكل؟ ألا تشربون كلكم نفس الماء؟ ألا تتنفسون كلكم نفس الهواء؟ ألا تتكلمون كلكم لغة واحدة؟ فاعلموا إذاً أن الأرض التي تقللكم هي نفس الأرض، وأن مصالحكم ومنافعكم واحدة وعاداتكم وتقاليدكم واحدة أيضاً».
في افتتاحية أخرى يذكّر البستاني السوريين بالقول المنسوب إلى الرسول العربي: «حب الوطن من الإيمان» ويندد بالطائفيين قائلا: «من يستبدل حب الوطن بحب الطائفة ليس سورياً وطنياً، بل هو عدو الوطن». لقد أثبت التاريخ أن بطرس البستاني كان «معلماً» كبيراً، فأي نوع من «التلاميذ» كنا نحن؟
ترى ما الذي كان «المعلم بطرس» سيقوله لو علم أن بعض «السوريين» لم يفهموا الدرس الذي شرحه منذ مئة وخمسة وخمسين عاماً، وأن بعضاً آخر منهم يُسْتَخْدَمُونَ الآن كمخلب قط في يد الغريب؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن