ثقافة وفن

الماضوية واقع وأخطار «1»

إسماعيل مروة : 

 

في الوقت الذي نحتفي فيه بالتراث والماضي لأغراض سياحية واقتصادية وسياسية، لم نكتف بالاستفادة من الماضي، بل قمنا بأغرب عملية لم يقم بها شعب من الشعوب، وهي الحياة في الماضي، فنحن أمة مختلفة نعيد الماضي ونستعيده، ونعيش فيه عيشاً تاماً، ولا نغادره البتة! وبما أن الماضي قد رحل، فإنه لا يبقى منه غير الآسن، لأن عوامل قوته وازدهاره انتهت بانتهاء الزمن، فالحضارة والفتوح والحكمة استفاد منها أصحابها، وأخشى أن يحزنوا إن قلت: أجدادنا، أخذوا منها كل ما يلزم لقوتهم التي وصلتنا، وعندما انتهت هذه العوامل رحل أولئك ورحلت معهم أيام عزهم، ونحن عندما نعود لا نجد إلا أسباب الخلاف والفرقة، وبلغة رياضية ذهبت كل عوامل القوة، وبقيت العوامل التي فتتت الأمة وأنهتها، وبما أننا على حد زعمنا نحن الورثة، فقد ورثنا عنهم هذه الأشياء المتبقية، فكل ما سبب انتهاء حضارتهم أخذناه، وها نحن نقاتل من أجله ونقتتل، ولا أحد في الكون يعنيه ما نقتتل من أجله! بل إن العالم كله يساعدنا على الاستذكار، وإن غاب عنا كتاب يحمل قصة أحدهم قتل مظلوماً أو ظالماً، فإن الآخر يتبرع باكتشافه وتحويله إلى كتلة من دم تتحرك بيننا!!
فنحن مسؤولون عمن سممت زوجها لتكسب زوجاً آخر!
ونحن مسؤولون عن دم سفح ذات لحظة من زمن!
ونحن مسؤولون عن خديعة قام بها أحدهم!
ونحن ورثة الدم لمن قتل مظلوماً!
ونحن المسؤولون عن داحس والغبراء!
ونحن المسؤولون عن الناقة!
ونحن مسؤولون عن قلة أدب شاعر شبّب بمحبوبته من قبيلة أخرى!
وصرت تسمع من الجميع عبارات قبلية، حتى بائع المفرق، وسائق التاكسي، إضافة لعالم الأنساب يقول لك: أنا تميمي، أنا تغلبي، أنا بكري، أنا قيسي، وما شابه ذلك، وما من أحد يقول لك أنا هو أنا الذي يدرج أمامك!
ومنذ عقود شهدت من كبار المثقفين استجلاب هويات النسب مدفوعة الثمن ليصل نسب أحدهم إلى أحد الصحابة، وبالمحصلة إلى رسول الله، وربما وصل النسب أبعد من ذلك!
وقبل أكثر من ألف عام قال لهم المتنبي:
ولست بقانع من كل فضل
بأن أعزى إلى جد همام
ولم نفهم حتى الجانب الإيجابي من قول سيد الشعر أبي الطيب بأنه يجب أن يعمل أحدنا، وألا يكتفي بأن يكون فخره بجده الهمام العظيم، فإن كان جدي عظيماً ولم أكن، فما الفائدة؟
هذه النزعة الماضوية ناتجة عن ضعف واقعنا أم ماذا؟ ألا يجد أحدنا في ذاته ما يستحق الاحترام حتى يعود إلى ذلك الماضي السحيق؟ وهل يقبل أحدنا أن يعيش ذلك الماضي على الحقيقة؟!
بعد ما يقارب ألفي عام يحمل أحدنا وزر أخطاء الماضي، ويحمّل الآخر الأخطاء! ويجزم أحدنا بالحقيقة، ويحدد المخطئ الذي لا يطوله أي شائبة، حتى تحول مفهوم العصمة إلى كل ما هو ماضوي! الماضي بكل ما فيه حتى من اقتتال سياسي انتقل إلينا ليحمل سمة عقيدية!
يا لنا من أمة تعيش ماضياً يتجاوز الماضي الذي تظنه، ليتنا عدنا إلى المراحل التي نتحدث عنها، لقد عدنا إلى قبلية وعصبية أبعد وأخطر بكثير!
فعن أي مدنية نتحدث؟
وعن أي حضارة نتكلم؟
وأي مستقبل رقمي ينتظرنا؟
أي مستقبل، ونحن نجد مثقفنا شاعراً، صحفياً، روائياً، بروفيسوراً، قل ما شئت عنه يتلوى كالحرباء ليتحدث عن شيء كان قبل زمن سحيق، ليصبح وريثه بل وريث السيئ منه؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن