قضايا وآراء

من تيريزا ماي إلى دونالد ترامب

| د.منير الشواف

حدثان مهمان سوف يؤثران في مستقبل العالم السياسي، فوز تيريزا ماي برئاسة حزب المحافظين البريطاني خلفاً لكاميرون، وتصويت الشعب البريطاني لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكذلك فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية ممثلاً صورياً للحزب الجمهوري، كلا الحدثين لم تتوقعه مراكز البحث والدراسات العالمية وكذلك المراقبون السياسيون الدوليون.
في بريطانيا فاز التيار الشعبوي المتمرد على سياسة المحافظين والعمال والأحرار، وفي الولايات المتحدة أيضاً فاز التيار الشعبوي اليميني على المؤسسات الرسمية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، في بريطانيا ليس الموضوع معقداً كما هو في الولايات المتحدة، حيث استطاعت الدوائر المؤثرة في القرار السياسي أن تجيش التيار الشعبوي بما فيه العمال والحرفيون باتجاه أن لا مصلحة لبريطانيا في متابعة انتمائها للاتحاد الأوروبي، العاجز والمترهل والمفكك سياسياً، وأن بريطانيا قادرة على أن تقود هذا الاتحاد من الخارج بشكل غير مباشر، فهي البلد الوحيد في أوروبا الذي يتمتع بأيد إضافية قادرة على التأثير في العالم، من أستراليا إلى الهند، تحت مسمى اتحاد «الكومنولث»، وبإشراف أخبث وأعرق، جهاز للاستخبارات الخارجية MI6 الواسع النفوذ والاطلاع، حيث علمت مسبقاً أن سياسة الولايات المتحدة بعد أوباما ستكون مع تقليص نفوذ الاتحاد الأوروبي الاقتصادي والسياسي وذراعه العسكري حلف (الناتو)، وعلى بريطانيا أن تهيئ نفسها لمرحلة مشاركة الولايات المتحدة، وأن تكون حصان طروادة لها في أوروبا على حساب حصتها بالمشاركة في قيادة العالم المتوقعة.
في الولايات المتحدة، الموضوع أكثر تعقيداً ودقة، حيث تمكن «رجل أعمال» كما يسمونه في أميركا لم يعمل في السياسة سابقاً هاوياً أو محترفاً، بل ساهم بشكل أساسي في مسابقات القمار والتعري، التي من شأنها أن ينمو في ظلها شبكات غسل الأموال والتهرب الضريبي.
ومع العلم أن هذه الأمور يزاولها رجال الأعمال من خلال القانون المعمول به في الولايات المتحدة، لكن في العرف الأميركي ليست لائقة برجل شأن عام، يتولى منصب حكم، علاوة على كونه الرجل الأول في الولايات المتحدة، والقائم على تطبيق الدستور ورعاية المصالح العامة.
الجميع يعرف كيف نُحي السيد «سبيرو أغنيو» نائب الرئيس نيكسون عن منصبه، بتهمة التهرب الضريبي، ثم نحي الرئيس نفسه بتهمة التجسس على نتائج انتخابات الخصم، فوصل السيد فورد إلى الرئاسة الأميركية ومن دون انتخاب من الشعب، وكيف أوشك كلينتون على الصرف من الخدمة والإحالة إلى السجن، بسبب صلات جنسية مع موظفة متدربة في البيت الأبيض، كل هذه الأمور لا تنقص من شأن المواطن الأميركي العادي، لكن على من يتولى منصب شأن عام كمنصب الرئيس أن يترفع عنها، وإلا كان غير مؤهل لتمثيل الأمة الأميركية وغير حارس على قيمها.
لا يمكن أن يكون هذا السجل الحافل بالقذارة قد خفي على صناع السياسة وأصحاب القرار في الولايات المتحدة، الذين يختارون عادة المرشح للرئاسة بعد أن يوافق مسبقاً على أن يمثلهم في تنفيذ (أجندة) الحكم الموضوعة منهم، إلا إذا كان اختيار ترامب مقصوداً بهذه المواصفات، للضغط عليه إذا وصل إلى الرئاسة، وتسييره بالريمونت كنترول كما يريد كبار رجال الأعمال الذين سهلوا له الوصول ليخدم (أجندتهم) السياسية، ولا يستطيع الخروج عنها، وإلا سيق إلى المحكمة الدستورية العليا أو إلى الدار الآخرة، كما حصل مع الرئيس كينيدي، كذلك اختيار مسز «كلينتون» كان مقصوداً، لتظهر أمام المرشح ترامب «كبطة عرجاء» بشخصية هزيلة لا تؤهلها لقيادة أميركا، لأن الشعب الأميركي ما زال مجتمعاً ذكورياً رغم دعواته لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل، فهو شعب يميني ورجعي في أعماقه ولا يزال يرى المرأة قاصرة عن تولي منصب الرئاسة الكبرى، ويكفي أنه يوجد 60 مليون أنجيلي بروتستانتي يؤمنون بأن موقعة «هرمجديون» قادمة لا محالة حيث تنتصر المسيحية ممثلة الخير على الشر، وهذا يؤكد أن رجال الأعمال صانعي القرار السياسي رشحوها حتى تسقط أمام ترامب، الذي مارس دور صقر (الكابوي) الذي يفضله الشعب الأميركي رجالاً ونساءً على امرأة تسيطر عليها الجبلة الأنثوية الخلقية عند ممارسة مهامها الأسرية، علماً أن ترامب هاجم شرائح الأقليات جميعها من «هسبانك» وأفارقة ومسلمين وعرب وحتى النساء وأهالي قتلى الجنود الأميركان في العراق.
ومع ذلك استطاع أن يفوز، لماذا؟
الولايات المتحدة بلد مدين على بعض الإحصائيات، بأكثر من 30 تريليون دولار للصين واليابان ودول النفط ورجال أعمال محليين وعالميين، وهي مستودع مالي لكل الحكام الذين سرقوا شعوبهم، وبمقاييس الاقتصاد الأكاديمي هي دولة مفلسة، يجب أن ينادى عليها في سوق الخراج ولا يمنع من ذلك إلا قوتها العسكرية ونفوذها العالمي وتأثيرها في مراكز القرار في العالم وفي المؤسسات الدولية، كما قالوا: العالم بمصيبة إذا بقيت الولايات المتحدة قائدة للعالم، وبمصيبة إذا خرجت، حيث ينهار النظام الدولي بالخروج غير المنظم لها عن القيادة.
وهذا الواقع ينفي الرأي السياسي الذي طرحه بعض المفكرين، بأن ترامب وصل إلى الرئاسة بنفوذه وقوته عن طريق تيار شعبوي حر وغير مبرمج، لأني ما زلت أعتقد أن لا شيء تغير بالنسبة إلى سيطرة الرأسماليين على عملية صنع القرار في الولايات المتحدة.
والذي أراه هو أن صناع القرار في الولايات المتحدة تحت مسمى جمهوري أو ديمقراطي بعد أن حكموا الولايات المتحدة بهذه الخديعة منذ عام الاستقلال 1776، من خلال أقل من مئة عائلة تملك أكثر من 90% من ثروة البلاد، فهم يملكون الشعب والدولة تحت مسمى ديمقراطي كاذب، جعل المواطن الأميركي يعتقد بأنه يحكم نفسه، لكن الحقيقة أن المؤثرات التي ابتدعها هؤلاء الملاك الكبار، قيدت قرار الشعوب بما يريده أهل الفعاليات الاقتصادية، لأنهم يملكون الصناعات الثقيلة والنفط والغاز وشركات التأمين والمصارف، وكارتلات وتروستات اقتصادية عملاقة كبرى، ساهم فيها الضعفاء من المواطنين لتكون غطاء لسيطرة هؤلاء الكبار، فهم لا يملكون حولاً ولا قوة في الحكم ولا في القرار السياسي، والحريات الكاذبة التي نراها محصورة في شؤون البلديات وإدارة مؤسسات الدولة المدنية والخدمية.
الطريق الوحيد كان أمام هؤلاء الكبار، هو ركب موجة شعبوية يصنعونها على علم ودراية ويركبونها ويقودونها تحت شعار مظلومية الطبقات الشعبوية في سوء توزيع الثروة، لجعل جميع الطبقات والمستويات تعيش بعدالة وإنصاف، ويتولى هؤلاء قيادة هذا التيار، ويبقى نفوذ أصحاب الفعاليات الاقتصادية هو المسيطر والمتحكم بموجب هذا التيار الفكري للولايات المتحدة وبريطانيا، وتبقى قيادة الحكم أنجلو سكسونية بمشاركة بريطانية للولايات المتحدة كشريك أصغر بمرتبة سمسار، قادر على التحكم بطريق غير مباشر في أوروبا العجوز القديمة، لتبقى في بحبوحة اقتصادية، لكن ليس لها أثر ومشاركة في الأعمال السياسية والاقتصادية الكبرى في العالم.
وهذه خطوة مرحلية تمهيدية للنظام العالمي الجديد المتوقعة ولادته، على ضوء ما يجري في الشرق الأوسط الكبير من خلال فوضى خلاقة بدأتها كوندا ليزا رايس عام 2003 عند اجتياح العراق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن