قضايا وآراء

بعد فوز ترامب هل فقدت أوروبا العجوز حارسها؟

| د. قحطان السيوفي 

ثمة تساؤل مهم: هل يُبشر فوز ترمب في الانتخابات الأميركية بخسارة أوروبا لحاميها؟
بداية أقول هل من الممكن ألا يخرج التاريخ عن مساره؟ حدث هذا مع العولمة الأولى بعد الحرب الكونية 1914، وفي الثلاثينيات من القرن العشرين تسببت كل من الظروف الاقتصادية الصعبة، والاتجاهات القومية، والنزعة الحمائية، في دعم ظهور الفاشية في أوروبا تاريخياً يُروَى أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية توقعوا أخطار المشاعر الشعبوية.
المحللون والمراقبون في مراكز الدراسات والبحث يعيدون قراءة «الورقة الفيدرالية العاشرة» Federalist No 10 التي ربما الأكثر شهرة فيما أصبح يعرف باسم «الأوراق الفيدرالية Federalist Papers، هذه المشكلة مواجهتها ليست سهلة بالنسبة إلى الغرب.
لا يكمن النظام العالمي الليبرالي بكل بساطة فقط في الحيوية الاقتصادية والقوة العسكرية، بل يرتكز على سلسلة من القيم يدعيها ويتبجح بها الغرب من الناحية النظرية: الحرية، وسيادة القانون، وكرامة الإنسان، والمؤسسات التعددية. وكلها الآن غير واقعية على الأرض، وهي موضع ازدراء الرئيس المنتخب لأقوى دولة في العالم. ومن ثمَّ، الديمقراطية الليبرالية نفسها أصبحت مثاراً للجدل، ومهما كان المسار الذي ستتبعه السياسة الأميركية في عهد ترامب، فإن الضرر الذي لحق بتحالف الأمم الذي عمل منذ عام 1945 كبير ولا يمكن إصلاحه.
النظام العالمي الذي صممته الولايات المتحدة كان آخذاً في التفكك منذ فترة. ولن يتمكن من النجاة حال انسحبت أميركا من زعامة العالم. وقد عملت كل من الأزمة المالية عام 2008، وركود الدخل، والتقشف، وخيبة الأمل في التجارة الحرة، على دفن توافق الآراء حول الاقتصاد الليبرالي. والآن، تعهد ترمب بتفكيك الركائز السياسية الخاصة بالنظام القديم.
شعار «أميركا أولا» يعزز الانعزالية – وهو نهج نحو نظام عالمي متجذر في السلطة وليس في سيادة القانون. التفسير الأضيق للمصلحة الوطنية ينال الأسبقية على الاعتبارات الأوسع في مسألة الأمن العالمي. ويبدو ترمب مقتنعاً بترؤس سلطة تعمل على حل نظام التحالفات الأميركي، تاركاً أوروبا العجوز ضعيفة عرضة لأخطار متعددة، وحلفاء واشنطن في شرقي
آسيا عرضة لمواجهات غير متكافئة مع المارد الصيني الأكثر ثقة بالنفس.
الدول الأوروبية تشهد حركات شعبوية ذات طابع قومي، وقد أشادت هذه الأخيرة بنجاح ترمب. إذ يتجاوز ترمب ذلك من خلال التبرؤ من الفكرة الأساسية التي تُنظِّم هيمنة الغرب على العالم: الفكرة التي مفادها أن أغنى الدول التي تدعي الديمقراطية في العالم يمكنها الإشراف على نظام شامل قائم على قواعد ويهدف إلى ضمان السلم والأمن في العالم.
وبالتالي، نتساءل. كم عدد دول الاتحاد الأوروبي التي يمكنها النجاة بعد انسحاب المظلة الأمنية الأميركية؟ روسيا القوية ستستمر بتقوبة علاقاتها واستعادة نفوذها في دول أوروبا الشرقية والوسطى. فهل ستتطلع الدول الصاعدة الآن إلى النزعة القومية، كنموذج لمجتمعاتها؟ ومن الذي سيحمي الحكومات الحليفة لواشنطن المطلة على بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي؟
بالمقابل يبدو أن أنجيلا ميركل هي آخر قائد يحاول الصمود في أوروبا. وهي مهددة بالخروج من المنصب بسبب أزمة المهاجرين… الآن، ولأن عاصفة ترمب تعبر المحيط الأطلسي، يُخيلُ لميركل أن ألمانيا، وأوروبا، (لا يُمكن تصوّرهما من دونها).
رد فعل ميركل المشروط بعناية على فوز دونالد ترمب بقولها: «ألمانيا والولايات المتحدة ترتبطان شكلاً من خلاُل ما يُسمى القيم الديمقراطية، والحرية، واحترام سيادة القانون، وكرامة الإنسان….».
لقد عبرت المستشارة عن الألم لأن ألمانيا تعتبر نفسها الوصية على النظام الدولي ما بعد الحرب، الذي يزدريه ترمب بشدة. يقول ترمب: «إنه حصل على ما يكفي من هذه «العولمة»، وسيستبدل بها «النزعة الأميركية».
باراك أوباما اختار برلين، ليقول منها في لقائه الوداعي للقادة الأوروبيين «إن ميركل كانت أقرب شركائه الدوليين». المشهد يشير إلى أن الرئيس الفرنسي سيُغادر قريباً، ورئيس الوزراء الإيطالي يواجه الثورة الشعبوية الخاصة به، ورئيسة الوزراء البريطانية التي تعاني من تداعيات التشنجات السياسية التي وعد بها «خروج بريطاني… بشكل علني، سعى أوباما إلى تقديم نوع من الطمأنينة لأوروبا. لكن الحقائق الجيوسياسية ستفرض نفسها، فازدراء ترمب لحلف الناتو وإعجابه بالرئيس بوتين، مؤشرات ذات دلالات مهمة حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، وأي صفقة بين ترمب وبوتين لإعادة العلاقات العادية مع روسيا من شأنها إثارة المخاوف لدى حكام أوروبا، وقلب التسوية الأمنية التي كانت سائدة منذ عام 1945 وإعادة تقاسم المصالح مرة أخرى بين مجالات النفوذ. لم تمض أيام على تحذير الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما من أخطار القومية «الفظة»، حتى انضم نظيره الفرنسي هولاند إلى المتخوفين… وتأتي هذه التحذيرات في ظل تطورات دولية في مقدمها التشدد الذي بدأ يطبع
الإدارة المقبلة للرئيس الأميركي المنتخب ترامب، وكان أوباما حذّر خلال زيارته الأخيرة إلى أثينا، قائلاً «نحن نعلم ما يحدث عندما يبدأ الأوروبيون في الانقسام على أنفسهم… شهد القرن العشرون سفك دماء»، في هذا السياق رد الأمين العام لـ«حلف شمال الأطلسي» بأن الحلف بحاجة إلى «قيادة أميركية قوية، وإلى أوروبيين مستعدين ليضطلعوا بدورهم.
في النهاية ستشهد أميركا هذا النوع من الخلطة المميتة التي تجمع بين تعصب السكان الأصليين، والانكفاء باتجاه الداخل، والحمائية، وهي الخلطة التي جعلت ترمب يفوز بهذه الانتخابات. المشهد يشير، بعد فوز ترامب، إلى أن الاتحاد الأوروبي خسر حارس مرماه، وقد تفقد أوروبا العجوز حاميها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن