قضايا وآراء

أمنهم القومي: فماذا عنّا أيها السادة؟!

| د.بسام أبو عبد الله

يقول إبراهام لينكولن: «عندما ينتزع الراعي عنزة من براثن ذئب… تعده العنزة بطلاً، أما الذئب فيعده ديكتاتورياً».
مقولة لينكولن هذه التي قالها قبل عقود طويلة من الزمن مناسبتها أن الفكر الغربي عامة، وقادة الغرب لا يخجلون أبداً في التعامل بكل قسوة وقوة عندما يتعلق الأمر بأمنهم القومي، ويتحولون إلى شرسين جداً، ويتخلون تماماً عن المبادئ، والحريات، والديمقراطية التي يُنظرون علينا بها ويطلبونها منّا حتى في زمن حرب عدوانية وحشية كالتي ما تزال تقاد منهم، ومن أدواتهم حتى الآن على سورية، لا بل يريدون كرامة للقتلة والمجرمين، والإرهابيين، وتتدفق منهم مشاعر الإنسانية، ويجهشون بالبكاء على أهلنا في شرق حلب حتى إن الإنسان يعتقد أن شرق حلب هو جزء من باريس، أو لندن، أو واشنطن، وليس جزءاً عزيزاً من أرض سورية.
إن التدقيق البحثي، والعلمي مطلوب لتقديم الحجة التي تسقط ادعاءاتهم بالشواهد والأدلة ذلك أن أحدث الدراسات في الولايات المتحدة، والغرب عموماً بشأن سؤال جوهري، وهو: أيهما أكثر أهمية الأمن القومي، أم الحريات المدنية؟ تفيد بخلاصات مهمة لابد لقرائنا أن يطلعوا عليها، وهي:
 إنقاذ حياة الناس أكثر أهمية من حماية بعض الحريات.
 الحريات المدنية تحتاج للأمن، والأمن هو الذي يعطي لها البيئة لتتطور.
 لا يمكن للحريات المدنية أن تمارس إذا كانت حياة المواطنين مهددة باختراقات أمنية، وبهدف إعطاء الناس الثقة بممارسة حرياتهم يجب على الحكومة التركيز أولاً على الأمن الداخلي.
 الحريات المدنية يمكن أن تعود لوضعها السابق فور انتهاء التهديدات الأمنية، لكن الضحايا الذين سيسقطون نتيجة الاختراقات الأمنية لا يمكن إعادتهم للحياة مرة أخرى…
تطبيقات هذه المقاربة نجدها في قانون (المواطنة)- (باتريوت آكت) الذي مررته إدارة جورج بوش الابن بعد أحداث 11/9 ومن يطلع على هذا القانون الذي لم يتم إلغاؤه حتى في عهد الديمقراطي (باراك أوباما) يكتشف أنه لو طبق الرئيس بشار الأسد أجزاء بسيطة منه لقامت الدنيا، ولم تقعد ولاتهم بالديكتاتورية، والشمولية، والوحشية… إلى آخر الأسطوانة التي حفظناها عن ظهر قلب، وبالمناسبة فإن دراسات استطلاعية في أمريكا أظهرت أن أكثر من (56%) من الأمريكان ليس لديهم مشكلة مع وكالة الأمن القومي،وتجسسها عليهم في سبيل مكافحة الإرهاب، بعد أن كشف العميل السابق لها (إدوارد سنودن) أنها تتجسس على كل شيء داخل أمريكا، وخارجه… وهذا أمر يُفترض ألا يكون مستغرباً بالنسبة لدولة عظمى كالولايات المتحدة.
كثيرون يعرفون مثلاً أن لدى الولايات المتحدة جهاز مخابرات واحداً اسمه (وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية- سي آي إيه)، لكن ما يجب أن يعرفه الجميع أن هناك (17) وكالة استخبارات في أمريكا، وسوف أعددها من باب فقء عين أولئك الذين يتحدثون عن المخابرات السورية، وأجهزتها الكثيرة حسب اعتقادهم، وادعاءاتهم، وهي: وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وكالة الأمن القومي، وكالة الاستخبارات الدفاعية، وكالة الاستخبارات الجغرافية الوطنية، مكتب الاستطلاع الوطني، مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، استخبارات مشاة البحرية الأمريكية، الاستخبارات الجوية، استخبارات البحرية الأمريكية، مكتب الاستخبارات والاستخبارات المضادة، مكتب الاستخبارات والتحليل، استخبارات حرس الحدود، مكتب الاستخبارات والأبحاث، مكتب الإرهاب والاستخبارات المالية، مكتب الاستخبارات الوطنية بإدارة مكافحة الإرهاب، فرع الأمن القومي في مكتب التحقيقات الفيدرالي، وأخيراً استخبارات الجيش (G-2).
وبحساب بسيط لعدد الموظفين العاملين في هذه الأجهزة حسب ما هو منشور، هناك أكثر من نصف مليون موظف مدني وعسكري يعملون فيها، ويصل حجم موازناتها إلى أكثر من (300) مليار دولار أمريكي، غير الموازنات السرية التي لا تُذكر أبداً، ولا يُعلن عنها، وهو ما يشير إلى أنهم من أجل الحفاظ على أمنهم القومي يسخرون كل هذه الإمكانيات الكبيرة، من دون أن نتحدث هنا عن السجل الأسود لهذه الأجهزة، وممارساتها داخل أمريكا، وفي العالم.
المقياس الأمريكي قد يختلف من دولة غربية إلى أخرى، لكن الجميع لا يمزح حينما يتعلق الأمر بتهديد الأمن القومي بغض النظر عن الجغرافيا التي تمتد على مساحة العالم بالنسبة لأمريكا فيما يخص الأمن القومي وتطبيقاته، وفي مجال أمنهم الداخلي لا يتورعون عن إعلان حالة الطوارئ فوراً، فقد أعلنت في أمريكا مئات المرات بسبب أحداث شغب، أو فوضى كما حدث في أحداث بالتيمور (نيسان/2015) أو أحداث دالاس (تموز/2016) حينما قام قناص بقتل خمسة من رجال الشرطة، وإصابة ستة آخرين بجراح على خلفية قتل الشرطة الأمريكية مواطناً أمريكياً أسود، وآنذاك كشف قائد شرطة دالاس أن الشرطة استخدمت إنساناً آلياً مفخخاً (مثل داعش) للتخلص من القناص- وقتله، وأما في إعصار كاترينا (أيلول/2005) فقد صدرت الأوامر للشرطة بإطلاق النار من دون إنذار على أي شخص لا يمتثل لأوامر الشرطة بسبب أعمال النهب، والسلب، والفوضى التي سادت في المدينة، والفضيحة التي عَرّت الإدارة الأمريكية بعدم قدرتها على مواجهة مآسي مواطنيها إثر الإعصار حتى إن صحيفة الديلي ميل البريطانية كتبت آنذاك: «ها هي قوة عظمى يمكنها الإطاحة بديكتاتورية كيفما تشاء، لكنها باتت غير قادرة على مواجهة الصعوبات التي يعانيها عشرات الآلاف من سكانها إثر كارثة طبيعية»، أما الديلي تلغراف فكتبت: «إن رؤية قوة عظمى تتعرض للإذلال هو أمرٌ مُذلّ بحد ذاته» ولقد فقد رجال الأمن السيطرة، وتم التوجيه بإطلاق النار المباشر على المواطنين!، ويمكن سرد آلاف الحوادث حول الطريقة التي يتعاطى بها ناظرو الديمقراطية في العالم مع قضايا تخص أمنهم القومي.
في حوادث الشغب التي شهدتها لندن (آب/2011) تداول كثيرون مقولة لرئيس الوزراء البريطاني آنذاك (ديفيد كاميرون) جاء فيها: «لا تحدثني عن حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي!»، وآنذاك نفت الجهات البريطانية رسمياً هذه المقولة، وحينما دققت في نص خطاب كاميرون بالإنكليزية تبين لي أن كلام البريطانيين صحيح، وأن الرجل ومن باب الموضوعية (لم يذكر هذه العبارة) «بالرغم من أنهم يزورون، ويقلبون الحقائق حول الرئيس بشار الأسد وسورية في وسائل إعلامهم، ومؤسسة الـ(بي بي سي) اعتذرت تسع مرات في الحالة السورية» لكنه قال كلاماً أكثر أهمية من تلك العبارة التي راجت، ومنه:
 «نحن بحاجة أولاً، وقبل كل شيء لصحوة أمنية، واستعادة شوارعنا من البلطجية الذين لم يخرجوا من العدم، بل تسببوا في بؤس حياة غيرهم لعدة سنوات».
أضاف كاميرون: «لا شيء في عملي هذا أكثر أهمية من حفظ أمن المواطنين، ولكي نفعل ذلك علينا أن نكون صارمين، وأقوياء، وأن نرسم خطاً واضحاً بين الحق، والباطل» وقال: «حان الوقت للقيام بشيء آخر وهو: حرب موحدة، وشاملة على العصابات، وثقافة العصابات».. وتابع بعبارة أخرى مهمة: «إن قوانين حقوق الإنسان تعطل حماية بريطانيا من الإرهاب»!
لو دققنا في عبارات كاميرون لوجدنا عبارات: «صحوة أمنية، البلطجية، حفظ أمن المواطنين، صارمين، أقوياء، الحق والباطل، حرب موحدة وشاملة، ثقافة العصابات»، فلو كان لدى كاميرون: «داعش، والنصرة، ونور الدين الزنكي، واستقم كما أُمرت، والجيش البريطاني الحر، وكتائب الفاروق، وفيلق تشرشل، وكتيبة بيغ بن، وكتائب لندن الحرة، ومعارضة مسلحة، وإرهابيون- ومعارضة معتدلة، وتدمير للبنى التحتية، وسلاح متدفق، وإعلام عالمي ضده، وتآمر أشقائه ضده» فماذا كان سيقول، وأي عبارات سوف يستخدم؟!
أما المنافق الفرنسي فيجب أن نذكر أنه في الاضطرابات التي وقعت في 27/10/2005، والتي بدأت في باريس، وانتشرت إلى مدن فرنسية أخرى، واستمرت 19 يوماً «وليس ست سنوات» وأدت لإحراق 8700 سيارة، وعدةً مبان، واعتقال 2700 شخص، وإعلان حالة الطوارئ فإن الرئيس الفرنسي الأسبق «ساركوزي» الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية وصف مثيري الشغب بأنهم «حثالة»، وأن العديد من الضواحي تحتاج إلى «تنظيف صناعي» وأن المشاكل التي تسببت في اندلاع أعمال الشغب أهملت على مدى ثلاثين عاماً، وستحتاج لوقت كبير لحلها!
لم يطالب أحد آنذاك «ساركوزي»، وحكومته بإصلاحات مباشرة لقضايا اعترف هو بنفسه بإهمالها لثلاثين عاماً، ولم يحاسب أحد ساركوزي لماذا أهملت، ولماذا تحتاج لوقت كبير لحلها؟
فرنسا نفسها أعلنت الطوارئ بعد حوادث الإرهاب في باريس، ومنحت الحكومة صلاحيات كبيرة، وأُنزل الجيش فقط من أجل عدد محدود من الإرهابيين.
أعبر عن الأسف للإطالة: لكن سؤالي دائماً لأولئك المنظرين السوريين من معارضة، وديمقراطيين جدد، اقرؤوا التاريخ، وتمعنوا فيما يقول داعموكم وكيف يتناقضون في حالة بلدكم سورية، بينما يستأسدون في حالة بلدانهم، وشعوبهم، وأمنهم القومي.
لماذا يحق لهم أن يضعوا أمنهم القومي فوق أي اعتبار، ولا يحق لنا ونحن أمام جيوش الإرهاب، وتحديات بهذا الحجم؟ لماذا يحق لرؤسائهم أن يتحدثوا عن حفظ أمن المواطنين، والقوة، والصرامة ولا يحق للرئيس بشار الأسد أن يستخدم الصلاحيات الدستورية نفسها؟ لماذا يحق لجيوشهم أن تفعل ما تشاء ولا يحق لجيشنا البطل أن يحمي مواطنيه ووحدة البلاد؟ ولماذا يحق لمخابراتهم أن تقوم بكل شيء وتُتهم المخابرات السورية بأبشع الاتهامات، والنعوت، وكأنه مطلوب منها أن تواجه الإرهاب بالورود، وباتفاقيات حقوق الإنسان، وخطابات تنظيرية فارغة لا تضمن أمن أحد؟
إن كلامي السابق لا يعني أبداً أنني ضد حقوق الإنسان، أو الحريات ولكن الأمر يحتاج إلى الانتصار على الإرهاب، وعودة الأمن والاستقرار كشرط أولي، وإجباري لتهيئة الظروف، والبيئة المناسبة لتطوير معايير قانونية توازن بين الأمن القومي للبلاد، وقضايا الحريات وحقوق الإنسان، والعمل السياسي، وأنا واثق من أن سورية سوف تسير وفق حكمة «صن تزو» أبرع قائد عسكري صيني حينما قال: «تتجسد القيادة في تحويل ما هو محنة إلى مكاسب»، أما أولئك الذين ينظرون علينا في الغرب هم، وأدواتهم، فما عليهم إلا أن يقرؤوا حكمة كونفوشيوس التي تقول: «على الإنسان أن يفعل ما يعظ الناس به، كما عليه أيضاً أن يعظ الناس بما يفعله» علَّ ذلك يشعرهم بالخجل، في زمن الفجور والوقاحة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن