ثقافة وفن

الكنايات الدمشقيّة… ما لها وما عليها .. تصوير لجوانب من واقعنا الاجتماعي سلباً أو إيجاباً

| منير كيال

تداول الناس في دمشق، تعابير وأقوالاً، يرتسم بها الواقع الاجتماعي، ويتوافر في مفرداتها وتعابيرها، قوّة بالمعنى، وخصوبة في الدلالة، فكان لها، أن تكون، تعبيراً صادقاً لما يجيش بالنفوس من الآراء والأفكار، وما هم عليه من تواصل وتوادّ، وصِلات اجتماعية وإنسانية.
وقد سرت هذه التعابير والأقوال مسرى الأمثال، فكانت محط الشاهد بأحاديثهم، أكان ذلك في الإطراء أم القدح والذمّ… وهذا ما أُطلق عليه اسم الكناية الشعبية.
وهذه الكنايات تعابير اصطلاحية من فنون الأدب الشعبي، وقد نشأت بالأصل من وجدان الشعب، وتداولها الناس، من السلف إلى الخلف، وعملوا بها صقلاً وتهذيباً، إلى أن استقرّت مع ما يتوافق عليه الوجدان الشعبي أو الجمعي، والذوق العام، فكانت تعبيراً صادقاً لما يفكّر به الناس وما هم عليه من آراء، وقد أتت هذه الكنايات على لسان الناس في صياغة لطيفة مختزلة، تتسم بالحلاوة والرقة، بما يتعايش الناس وعلاقات بعضهم ببعض وما هم عليه من تواصل وتوادّ وتراحم وصِلات كما أشرنا.
كما أن من هذه الكنايات ما يدل على الموطن الذي ينتمي إليه المرء، ويغلب عليه فيعرف به ومن ذلك قولهم المصري والحرستاني والحلبي… فيصبح ذلك لقباً أو كنية يعرف بها كما يعرف بها الأولاد والأحفاد.

وقد تتصل هذه الكنية، بحرفة أو صنعة عُرف بها المرء فتصبح له سمة يعرف بها وإن انقرضت هذه الحرفة ومن ذلك كنية المحملجي، نسبة إلى محمل الحج وكنية: العكام، الذي كان يرافق الحاج ويكون له عوناً في حلّه وترحاله، إلى أن يعود الحاج إلى بلده أو منزله، ويمكن أن ينسحب ذلك على حرفة الحداد والنجار، والشاويش.
فضلاً عن ذلك، يمكن أن نجد كنايات عامّة يمكن أن تكون نبراساً لكثير من الأمور التي قد تواجه الناس في حياتهم من أخذ وعطاء وتعامل، كقولهم: كل مين حقّه بيرضيه، وقولهم: الله ما انشاف بالعين، بالعقل انعرف، وكذلك قولهم: يا رمضان ليش (لماذا) لا تأتي بشعبان، قال كل شيء بوقته حلو، ومن هذه الكنايات ما كان على سبيل توجيه النصح بإطار من الجدّ أو المزاح، بل التملّق والمحاباة: كقولهم: اقعد أعوج واحكي جالس، وقولهم: حطّ إصبعتك بعينك، متل ما بتوجعك بتوجع غيرك، وقولهم: حكي الوشّ (الوجه) قوّة، وحكي القفا مروّة.
وإذا توقفنا عند الكنى التي تطلق على الدمشقي، رجلاً كان أم امرأة، لجاز لنا القول: إن مدينة دمشق من أهم وأكبر الحواضر العربية، وأكثرها عناية بأن يتصف أو يكنى المرء فيها بكنية ترادف اسمه، وتتصل به، وتميزه عمن سواه، فلا تطلق هذه الكنية على غيره، وإنما تبقى ملازمة له، ومتصلة بأولاده وأحفاده وسلالته، فيعرفون بها.
ولهذه الخاصية بالتعرّف على المرء بدمشق، جعلت لدمشق ميزة تضاف إلى ما لدمشق من خصائص تفرّدت بها.
فقد يُلحظ بالحواضر الأخرى صعوبة بالتعرف على هويّة المتشابهين بالاسم، وعلى الأخص في أمور الامتحانات العامة، أو المسابقات، وتخصيص الملكية أو الميراث، الأمر الذي يستدعي معرفة اسم الأب واسم الأم ومكان وتاريخ الولادة في قيد النفوس، وغير ذلك من الأمور التي تستوجب تحديد الشخص بذاته ودونما غيره من الناس.
وما إلى ذلك من أمور، جعلت المرء بدمشق، ينتسب إلى كنية ترافقه وتلازمه في حلّه وترحاله وفي جميع أحواله.
فضلاً عن ذلك فقد كانت ثمة كنايات أطلق بعضها على الرجال، وبعضها الآخر على النساء بدمشق، فمن الكنايات التي اتصلت بالرجال، ما كان بالصفات الجسمانية، امتلاء ونحولاً، وطولاً وقصراً، صحّة واعتلالاً وسقماً، وكنايات تناولت مناقب الرجال ومواقفهم الجديرة بالاحترام، وأساليبهم بالتعامل، فمن الكنايات الجسمانية قولهم: أسمراني، أبيضاني، أجرودي، أصفر حجر، مصوفن، مربوع أمام ما كان من مناقب الرجال، فيمكن أن تذكر قولهم: قبضاي، زكرت، أخو أخته، قد حاله، ابن أصل، وبالتالي فقد أطلقت كنايات على الرجال تناولت الانتقاد أو التجريح، نذكر منها قولهم: ابن مبارح (أمس)، أندبوري، أخوت، بلوة مصبّرة، تنتوف، تنبل…
ومن الكنايات السائرة أو المنتشرة بدمشق، ما كان يتعلق بسلوك المرء وتعامله ومشاعره أكان ذلك سلباً، أم إيجاباً: ومن ذلك قولهم: مأنزع، خرفان، خرمان، وقولهم: ركب راسه، سن سنانه، حبكت معه، برزأ (حدّق) عيونه، طار من الفرح، غرقان لشوشته، فزّ من أربعته، كما يمكن أن نذكر قولهم في سلوك الآخر: ما بيستطعم، ما بينطاق، متصنبع، متعربط، متبهرج.
وإذا أمكن القول بكنايات تناولت ملامح الرجال الجسمانية، ومناقبهم ومثالبهم وسلوكياتهم، فإن من الممكن أن ينسحب ذلك على النساء، وهذا لا ينفي إمكان إطلاق بعض كنايات الرجال على النساء، مع إمالات طفيفة في نصّ الكناية وفي جميع الأحوال يمكن القول إن الكنايات المتعلقة بالنساء لم تكن تشمل كل ما من شأنه نسبة المرأة إلى كنية تُعرف بها ويتوارثها أولادها ثم أحفادها، بحيث تكون صفة ملازمة لكل منهم، فيعرف كل واحد منهم بها في تيسير تعامله مع الآخر، فقد اقتصرت الكنايات المتعلقة بالمرأة على مناقبها ومثالبها وشكلها مع كنايات أخرى اتصفت بالمغالاة والمداهنة والتملق، وكيل ألقاب التبجيل للمرأة، وفقاً لما تتطلبه المناسبة التي تطلق فيها الكناية، فالسيدة الراتبة أو السربست في مجلس يمكن أن توصف بأنها لألوءة، في موقف آخر، والمرأة التي وصفت بالشرنة في مجلس يمكن أن تكون راتبة، وسيدة بيت، في مجلس آخر: وعلى ذلك فإن الكنايات التي تناولت كيل المديح للمرأة أو انتقادها بها الكثير من المواربة، لأن هذه الكنايات تأخذ بعين الاعتبار، المكان والزمان والمناسبة ومزاج من يطلقها على المرأة، كما أن من هذه الكنايات ما كان على جانب كبير في تقارب المضمون، وإن تباينت بالنص، وهذا يجعلنا نقول إن الكنايات التي تناولت النواحي الجسمانية والسلوكية للمرأة كانت على نحوٍ من الديمومة بمعنى أنها كانت ألصق بالمرأة وأكثر ملازمة لها. فالمرأة التي وصفت بأنها مربربة، لن تتحول في ليلة وضحاها إلى شنكوحة والشنتيرة لن تعود فصعونة (صغيرة).
وينسحب هذا الأمر على الكنايات التي تناولت سلوك المرأة: فمن كانت ثقيلة الدم لن تكون خفيفة الظل أو مهضومة، ومن كان وجهها للخير غير التي كعبها مدوّر. ومن كان كتفها راتباً ليست كالمشرشحة وفي ذلك قولهم الملامح الجسمانية للمرأة:
الآلب (القالب) غالب، معرعرة، مشلّطة، ملفوفة، شنتيرة، ومن كنايات مناقب المرأة يمكن أن نذكر: أخت الرجال، بنت أصل، لسانها حلو، كاملة مكملة، كما يمكن أن نذكر من كنايات الانتقاد والتلميح بالمرأة قولهم: أم كلّه، أم باجوء، قباوة، بلوة مصبّرة، جربانة، شاضومة، لسانها طويل، مسترجلة، مشولحة… وغير ذلك كثير، وفي ما يتعلق بمشاعر المرأة وسلوكها يمكن أن نعدد الكثير من الكنايات. وقد آثرنا الاكتفاء بقولهم: دايرة على حلّ شعرها، حيّة تحت تبن، حبرها غميق، شمستها عالية، مثل الزبدية الصيني، مثل شمّا اللطّامة، وجهها شكوري، مولدنة.
وإذا تجاوزنا ما يعرف بدعاوي (من الدعاء) النسوان الماثلة بذاكرتنا الشعبية بما يتندّر به جيل هذه الأيام على سبيل الطرافة والمزاح، يمكن أن ندرج موضوع كنايات (نداء) الباعة. ذلك أن الباعة بدمشق كانوا ينادون على بضاعتهم نداءات فيها من الطرافة والمتعة مما لا يخطر على بال، كان باعة الخضر والفواكه والمآكل وباعة الحاجات المنزلية ينادون أو يدللون على ما يبيعون، وكان لكل بائع منهم نغمة خاصّة يترنّم بها، بل إن لكل نوع مما ينادون عليه صيغة خاصّة يُعرف بها، وهي في جميع الأحوال تتميز بتعابير عذبة وجمل بسيطة، تنطلق من خواطرهم وبجرس موسيقي أليف محبّب إلى النفوس، ويطرب لسماعها من يسمعها، فيقبل على الشراء.
كنت ترى الباعة بدمشق حتى أواسط القرن المنصرم (العشرين) يجوبون حارات وأزقة دمشق، وقد كدّسوا ما ينادون عليه في أشلفة (شليف) وهو دعاء ذو عدلين، يُوضع على ظهر الدابة، أو أنهم يتأنقون في عرض ما ينادون عليه على بسطاتهم أو بدكاكينهم (محالّهم).
وغالباً ما تكون تلك المناداة على ما يبيعونه لا تدل على ما ينادى عليه، حتى إنه لا يكاد يُفهم ما يعنون إلا أبناء مدينة دمشق، والغريب من سكان هذه المدينة قد يحتاج إلى ترجمان يترجم له ما يعنيه البائع بمناداته، إذا لم يشاهد ذلك الغريب البضاعة المنادى عليها بنفسه.
فضلاً عن ذلك فقد كان من نداءات الباعة ما يرمي إلى الغمز واللمز والتلميح بمن يمّر أمامهم ممن كان بينه وبين البائع إشكال أو خصومة، كقولهم بالمناداة على الطرخون: خاين…، كون نبات الطرخون يُزرع بمكان، وينبت بمكان آخر قريب من مكان زراعته، أو ينادون على سبيل التعريض إذا مرّت من أمام الدكان فتاة فيكون النداء على الجانرك قولهم: لا تدور عليها… الحلوة ليكها، وعلى البندورة قولهم: احمر من هيك ما فيه، على سبيل التعرض لبائع آخر أو التعريض بإنسان على خصومة مع البائع.
ونداء الباعة بالتدليل على الخضر والفواكه غالباً ما يكون النداء على بضاعتهم مستوحى من صفات أو طعم ولون، أو مكان زراعة ما يبيعون، فهي ينسبون العنب الأحمر إلى دوما والحلواني إلى داريا والجزر إلى القابون والبصل إلى الحتيتة والخسّ إلى أرض اللوان والسفرجل إلى الأشرفية والتين إلى مضايا والبطاطا إلى يبرود والباذنجان إلى كفرسوسة والفاصولياء الخضراء إلى بلودان، وقد يعتمد النداء على صفات المنادى عليه أو طعمه كقولهم بالنداء على البامياء: خضرا هالباميه، زرادة الباميه استانبولية البامية، وعلى المشمش: ورد وماء ورد هذا خمير يا بلدي، وعلى الكمأة: سمرة يا بنت العربان، أبوكي راعي الحصان يا سمرة… وينادون على السفرجل كل عضّة بغصة يا سفرجل على مال الأشرفية يا سفرجل، وينادون على الكوسا: هيّة موز يا كوسا، تحت اليبرق (ورق العنب) يا كوسا، وينادون على الخسّ بقولهم: العشرة الكبار يا مال اللوان (أرض كفرسوسة)، وعلى العنب: الزيني حلواني والأحمر دوماني طاب يا عنب الدوالي، أو قولهم: هدّوا خيامه وما بقي بالكرم غير الحطب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن