قضايا وآراء

عندما «ينتقد» و«يحذر»

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي

بينما يعجز كثيرون في بلادنا حتى اللحظة عن رؤية الولايات المتحدة في غير صورة الجبار القادر الذي يملك خطة لكل طارئ، لا يبدو هناك أدل على المأزق الوجودي الذي دخله النظام الذي اصطلح في التسعينيات على تسميته بنظام العولمة الأميركي من مقال فرانسيس فوكوياما الأخير الذي نشرته مجلة ذي فاينانشال تايمز يوم الجمعة 11 تشرين الثاني تحت عنوان (الولايات المتحدة ضد العالم؟ ترامب والنظام العالمي الجديد)، وأهمية المقال تنبع أولاً من رمزية اسم فوكوياما الذي حاز شهرة كبيرة بفضل الكتاب الذي صدر له عام 1992 بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، الذي اعتبر فيه أن التاريخ البشري انتهي ليس كما كان يتوقع كارل ماركس بزوال الفوارق بين الطبقات، وهو ما تنص عليه نظريته الشهيرة (المادية التاريخية)، بل انتهى بانتصار النظام السياسي والاقتصادي الذي تم إرساء قواعده في الغرب بدءاً من الخمسينيات وهو النظام الليبرالي الرأسمالي الغربي، ونموذجه الأهم يتمثل في نظام السياسة والحكم والاقتصاد في الولايات المتحدة الأميركية، حيث رأى فوكوياما أن نهاية النظم (الشمولية السلطوية كما أسماها) والتي تضطهد الإنسان، مرتبطة باستقرار نظام السوق الحرة في الديمقراطيات الغربية، والذي أثبت أنه النظام الأمثل الذي يختزل كل إيجابيات التجربة البشرية على كوكب الأرض في مجالي السياسة والاقتصاد، وأن القوة الناعمة الكامنة في أميركا والتي أسقطت المعسكر الاشتراكي كفيلة بالإجهاز على الأنظمة التي لا تتبنى الديمقراطية الليبرالية بشكلها الحديث (النيوليبرالية)، أو بمعنى آخر الأنظمة التي لا تتكيف مع الإرادة والمعايير الأميركية وتخضع لها.
نقرأ اليوم فوكوياما بعد فوز دونالد ترامب يرد على فوكوياما التسعينيات حيث يجد نفسه في مقاله الأخير في ذي فاينانشال تايمز مضطرا للاعتراف بأن التاريخ لم ينته، وبأن فوز ترامب ذو دلالة إستراتيجية مهمة، فهو مؤشر على أن النظام في الولايات المتحدة يواجه إخفاقا تاريخيا من الناحيتين السياسية والاقتصادية، إذ أدت سياسات النيوليبرالية التي بشر بها فوكوياما وغيره من المثقفين إلى سخط واسع ليس في أوساط الطبقات الشعبية الواسعة في الدول النامية فحسب، وإنما داخل الولايات المتحدة نفسها قائدة نظام العولمة، حيث راكمت النخبة مزيدا من الثروات على حين حصدت الأكثرية الخيبات (فعلى الرغم من أن الإحصائيات تشير إلى أن الدخل الأميركي العام خلال السنوات الخمسين الأخيرة تضاعف أربعين مرة، فقد ترافق ذلك مع انخفاض مداخيل معظم الأميركيين مع فقدان الكثيرين لوظائفهم، حتى وصل عدد المشردين ممن لا يملكون ما يؤويهم نحو 30 مليون مواطن)، لذلك يقر فوكوياما أن ترامب جاء على صهوة وعوده للأغلبية الشعبية في الولايات المتحدة بالتراجع عن سياسات النيوليبرالية الجديدة التي أفقدتهم وظائفهم وخفضت من قيمة مداخيلهم، وذلك عبر فرض سياسات اقتصادية حمائية على الاستيراد ما سيعوق عملية انتقال رؤوس الأموال للاستثمار في الصناعة في بلدان أخرى كالصين حيث الأيدي العاملة الرخيصة، وهو ما يتناقض تماما مع مبادئ السوق الحرة، ويرفق فوكوياما مع ما سبق العامل عاملاً آخر يهدد الليبرالية الغربية من وجهة نظره يتمثل في تصاعد النزعات القومية الشعوبية داخل الولايات المتحدة وداخل دول الاتحاد الأوروبي، وللمفارقة أدى العامل الأخير نفسه دوراً مهماً في انهيار المعسكر الاشتراكي، وهو عامل كامن يظهر في المفارق التاريخية التي تواجه فيها الدولة التي تمثل الهوية الجامعة فشلا اقتصادياً أو عسكريا مستعصيا.
لم يكن مفاجئاً أن يخفق نظام النيوليبرالية الذي بشر به فوكوياما في تحقيق الحد الأدنى من العدالة في توزيع الثروات داخل الولايات المتحدة، فهذا النظام هو آخر تجليات الرأسمالية المتوحشة بعد أن تخلت عن آخر القيم الوطنية والقومية، وصارت القيمة الوحيدة فيها هي تحقيق الربح لصاحب رأسمال بغض النظر عن مصلحة الطبقات العاملة حتى داخل الدولة القومية التي تمثل المركز في عملية التوسع الإمبريالي، (حيث أصبح بمقدور صاحب رأسمال الأميركي أن ينقل مصنعه إلى الصين أو إلى أي دولة من دول جنوب شرق آسيا ليستفيد من الأيدي العاملة الرخيصة هناك، ومن ثم يعيد تصدير إنتاجه إلى الولايات المتحدة الأميركية نفسها محققاً أرباحاً مضاعفة، غير عابئ بآلاف الأميركيين الذين فقدوا وظائفهم نتيجة لذلك)، لكن فوكوياما الذي سبق له أن أيد العولمة العسكرية التي تجلت في حروب الولايات المتحدة من أجل نشر قيم الديمقراطية على النمط الغربي في العالم بالقوة، سكت في مقاله الأخير عن جزء آخر من قصة فوز ترامب، وهو الجزء الذي وللمفارقة يهمنا نحن شعوب ما اصطلح على تسميته ببلدان الجنوب أو العالم الثالث، حيث كان المفاجئ فعلا بالنسبة لأمثال فوكوياما من المحافظين الجدد المنظرين للنظام العالمي الجديد هو سقوط رهان النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة على إصلاح الخلل وتجنب عدم الاستقرار الاجتماعي المتوقع نتيجة التصاعد في تطبيق النيوليبرالية داخل أميركا، وذلك عبر شن مزيد من الحروب في الخارج لفرض مزيد من السيطرة والنهب لثروات العالم، وهو ما تجلى في حروب أفغانستان والعراق وليبيا وسورية، التي هدفت للسيطرة على منابع الطاقة وعلى مسارات أنابيب النفط والغاز، وعلى طرق التجارة الدولية، وللمحاصرة والتحكم في نمو القوى الصاعدة في آسيا (روسيا الصين إيران).
لقد أخفق المخطط الإمبريالي بسبب المقاومة التي أبدتها شعوبنا، وبدلاً من تحقيق الانتعاش للاقتصاد الأميركي تسببت الحروب المباشرة التي شنت في عهد بوش الابن بانتعاش أرباح شركات تصنيع السلاح التي تبيع السلاح للجيش الأميركي، وشركات نفط مثل هاليبرتون التي تمون الجيش الأميركي بالوقود، وشركات أمنية مثل بلاك ووتر التي تمول الحروب الأميركية بالمرتزقة، وهي شركات تمتلكها النخبة الحاكمة في أميركا أو ما اصطلح على تسميته بالمجمع الصناعي العسكري، في حين أصيب الاقتصاد الأميركي بنكسات هائلة، ليلي ذلك مرحلة أوباما الذي حاول إصلاح الخراب الاقتصادي والفشل العسكري الأميركي عبر شن مزيد من الحروب، لكن غير المباشرة هذه المرة، وبواسطة استخدام ثلاثي المخابرات والإعلام والإرهاب، وهو ما بلغ ذروته في حرب سورية، التي أغرى صمودها خمس سنوات الدب الروسي بالتدخل المباشر، حتى وصلنا إلى وضع ينتقد فيه مرشح جمهوري مثل ترامب سياسة التصعيد التي ينتهجها أوباما وكلينتون الديمقراطيان في سورية، ويحذر من حرب عالمية في حال الاستمرار فيها، مطالباً بالتراجع والتفاهم مع روسيا، على الضد تماماً مما جرت عليه عادة المرشحين الجمهوريين، لينكشف بذلك عجز نظام الإمبريالية الأميركية العسكري على التوزاي مع إخفاقه الاقتصادي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن