قضايا وآراء

مغامرة رأس المملوك جابر

عبد المنعم علي عيسى : 

 

على العكس مما يرشح لم يعد هناك من نقاط خلاف حقيقية بين طهران و5 + 1، وقد بات من المؤكد أن التوافقات الكبرى قد حدثت ما قبل التوقيع على لوزان (2/4/2015)، يقرأ ذلك من خلال ما قاله هنري كيسنجر للمسؤولين الفرنسيين الذين التقاهم في زيارته الأخيرة إلى باريس آذار 2015: «أوباما بات جاهزاً الآن لإعطاء مساحة أكبر للنفوذ الإيراني في المنطقة فلا تخطئوا الحسابات».
وما تبقى من خلاف يمكن أن يكون تفصيلاً هنا أو آخر هناك إلا أن الأهم (مما تبقى) يتمثل في الوصول إلى صيغة «إخراجية» كتلك التي سبقت اتفاق لوزان فقد شكلت الموافقة على إنشاء حلف مصغر كان أشبه بجناح شرق أوسطي للناتو في 29 آذار 2015 مزلاجاً سريعاً أوصل راكبيه إلى خط النهاية في أقل من أيام ثلاثة، كان ذلك الخط على ضفاف بحيرة ليمان من الجهة السويسرية لها.
من المنتظر أن يكون لما سبق منعكسات إيجابية على مختلف البؤر الملتهبة في المنطقة حتى وإن بدا المشهد يسير بعكس ذلك فالتسويات الكبرى دائماً تحتاج إلى تصعيد كبير، ولربما برزت في هذا الأخير «فقاعتان» اثنتان كان من شأنهما أن يدخلا الأزمة السورية في مدارات أخرى لم تكن مسبوقة لولا وجود ضعف في الشروط الموضوعية لنجاحهما ما استثمره دهاء صانع القرار السياسي السوري بمهارة فائقة ليجعل منه هدفاً ليس من الصعب اصطياده.

الفقاعة الأردنية
اتسم الموقف الأردني من الأزمة السورية بالكثير من التذبذب إلا أن نوسانه كان منضبطاً في مجال لا يتعدى فيه حدين اثنين: فلا عمان ذهبت لأن تضع نفسها في مواجهة مباشرة مع دول الخليج عن طريق «صمّ» أذنيها تماماً عن المطالب الخليجية، ولا هي أصاخت السمع جيداً لجميع تلك المطالب التي كانت تدرك أنها ستدخل المنطقة في دوامة سيكون الأردن بالتأكيد في القلب منها.
برز في الآونة الأخيرة أمام القصر الملكي الأردني تحديان كبيران: الأول هو الشح الاقتصادي الكبير فقد وصل الدين العام إلى ثلاثين مليار دولار في بلد ليس فيه موارد حقيقية يمكن الاعتماد عليها، والثاني هو اقتراب التهديد الداعشي من النوافذ الأردنية بعدما بات الطريق الصحراوي الممتد من تدمر باتجاه الحدود الأردنية مفتوحاً إذا ما أراد داعش السير فيه.
شكلت تلك الثنائية الأرضية التي يمكن على أساسها فهم حالة «التراقص» السياسي التي طبعت أداء العاهل الأردني الأخير، والتي ظهرت في التفاتته المفاجئة لاستمالة العشائر المتجذرة في الشرق العراقي وفي الجنوب السوري، داعياً إياها في زيارته لها 15/6/2015 إلى حمل السلاح «ذي الهوى الهاشمي» مع الحمولات التي تفرضها تلك العملية، حيث لهذه الأخيرة (للحمولات) الأولوية القصوى في حراك من هذا النوع وهي تفوق بكثير العملية – وأهدافها- برمتها.
صحيح أن استقرار العرش الهاشمي كان على الدوام يقوم على ضرورة الحفاظ على أوثق العلاقات مع العشائر حتى إن حكم هؤلاء قد أضحى مؤسسة سياسية تلعب دوراً كبيراً في الكيان الأردني ولها الكلمة الفصل في كثير من موجبات الأمن والاستقرار إلا أن العرض الملكي يقع بالتأكيد خارج تلك الضرورات ويتعداها إلى أبعد من ذلك بكثير وخصوصاً أن الكثير من المحللين كانوا قد ربطوا – وفي الأمر ما يدعو إليه- بين ذلك العرض وإحياء الذكرى التاريخية لقيام إمارة الحجاز وفيها ذهب العاهل الأردني إلى تسليم الراية الهاشمية إلى الفريق مشعل الزين رئيس هيئة الأركان الأردنية، كانت تلك الراية التي رفعها الشريف حسين بن علي (10 حزيران 1918) غداة إعلانه الثورة على العثمانيين تشير في مكوناتها إلى مراميها وإلى الرسائل التي أرادت إيصالها في أكثر من اتجاه، فالأرضية القرمزية تظهر بشكل جلي ما اختط عليها بلون أسود: الشهادة والبسملة والحمد وهي بذلك يمكن لها أن تبزّ الرايتين المنافستين (الوهابية والداعشية) لها على زعامة الخلافة الإسلامية.
تزامنت حالة الشح الاقتصادي الأردنية مع تجاهل خليجي صمّ أذنيه عن نداءات الاستغاثة الأردنية (بعكس ما كان عليه الأمر في الحالة المصرية) وهو تجاهل مقصود يهدف إلى دفع الأردن نحو خيارات أخرى ولتكن من النوع المغامر حتى ولو لم تكن تملك من فرص النجاح الشيء الكثير فالخروج من المأزق أمر يهون له ركب المخاطر أليس كذلك؟
مغامرة رأس المملوك جابر ولدت ميتة في مهدها فلا الوضع الإقليمي بقادر على احتمالها (مصر والسعودية) ولا التركيبة الأردنية الداخلية هي الأخرى بقادرة على احتمالها أيضاً طالما أن القاعدة الاجتماعية التي كان من المفترض أن تستند إليها هي نفسها التي ستكون رافضة لها وهو ما ظهر سريعاً في اجتماع العشائر السورية في دمشق 19/6/2015، وفيه جاء في البيان المقتضب الذي صدر عن ذلك الاجتماع بأن الدعوة الأردنية «غير مسؤولة» بمعنى أن التعاطي معها لا يمكن أن يكون جدياً إن لم نقل إن ذلك المصطلح يحمل توصيفاً آخر.
كان الأساس الذي قامت عليه مختلف السياسات الأردنية في العامين الأخيرين ينضوي على قصور كبير في الرؤية السياسية وهو ينطلق من أن العرش الهاشمي هو صانع ذلك الاستقرار النسبي الذي ينعم به الأردن مقابل الأعاصير التي تعصف بالعديد من دول الجوار، والصحيح أن ذلك الاستقرار لم يكن إلا وليد احتياج إقليمي ودولي كانت له إفرازاته الصمغية على النسيج المجتمعي الأردني أقله حتى الآن.

الفقاعة التركية
شكّل وجوب إشراك قوى سياسية أخرى في السلطة عاملاً ضاغطاً على أعصاب صانع القرار السياسي التركي، وهو أمر من الممكن له أن يفتح أبواب جهنم على مصاريعها وخصوصاً إذا ما كانت النيات الأميركية تتعدى حالة «الترويض» التي أخضعت أردوغان لها، فواشنطن تملك كماً هائلاً من المؤثرات في التوازنات الداخلية التركية والتي تمكنها من اللعب بالاستقرار التركي لحظة تشاء وبمعنى آخر لحظة يصدر القرار بوجوب نسف الأردوغانية تبعاً لمقتضيات المصالح الأميركية.
برز في الآونة الأخيرة مؤشران مقلقان للإدارة التركية الأول في ذهاب التحقيقات التي يجريها القضاء التركي للبت في التقارير التي تشير إلى دعم تلك الإدارة للمجموعات المسلحة في سورية إلى حدود لم يكن اردوغان يتوقع أن تصل إليها ما يفترض فيه هنا تلمس أصابع فتح الله غولن ذي النفوذ الواسع في القضاء التركي ومن ورائه الـCIA بالتأكيد.
الثاني في إصدار أحمد سيفير (مستشار الرئيس التركي السابق عبد الله غل) لكتاب الأخير (12 عاماً مع عبد الله غل) والذي أظهر فيه أن ثمة تناقضاً كان كبيراً بين عبد الله غل ورجب طيب أردوغان فيما يخص الأزمتين المصرية والسورية، والأمر المهم هنا هو أن معدل النمو 10% الذي كان سائداً عشية ذلك التناقض قد استطاع أن يبقي هذا الأخير تحت الوسائد، فأنى للمعدل السائد اليوم 3.7% أن يبقي ذلك التناقض في مكانه الأخير هذا، ما يفتح الباب هنا على انهيارات بنيوية داخل حزب العدالة والتنمية نفسه.
على وقع هذا القلق التركي المتصاعد يأتي الحراك الكردي في الشمال السوري ليزيد المشهد تعقيداً صحيح أن أردوغان لا يستطيع التصدي له لأن من شأن ذلك أن يضعه في مواجهة مباشرة مع واشنطن الداعمة بقوة لذلك الحراك، إلا أن اتجاه المسار السياسي في أنقرة يتجه على الأرجح إلى تشكيل حكومة ائتلافية بين حزب العدالة والتنمية مع الحركة القومية التركية ما سيعني استفزازاً كبيراً للأكراد الذين باتوا يسيطرون سياسياً (بعد فوز حزب الشعوب الديمقراطية بثمانين مقعداً في الانتخابات الأخيرة) على الولايات التركية المحاذية لأرمينيا وإيران والعراق وسورية، ما يفتح المجال أمام تصرفات قد لا تكون من النوع الذي يتم حسابه في عمليات الجرد السياسية.
الثابت المؤكد اليوم هو أن واشنطن ذاهبة نحو قصقصة الأجنحة الأردوغانية التي كانت قد نمت في ظل فورة اقتصادية قامت أساساً على رساميل غربية مستأجرة ستكون عامل انفجار مدوٍ عندما تصبح مستحقة الدفع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن