ثقافة وفن

د من ذاكرة الإنسان والمكان والزمان…من الكتاتيب إلى مسحر رمضان ثم إلى الترامواي

منير كيال : 

من طبيعة الإنسان، الحنين إلى طفولته يستذكر فيها الحنين إلى صور المحبة والإيثار والخير والعطاء.. بل جميع المعاني الإنسانية التي تشد الإنسان إلى أخيه الإنسان، وتجعل الحياة جديرة بأن تعاش، فذاكرة الإنسان تحفل بالعديد من العوالم و المواقف والرؤى وأنماط المعيش والسلوك والتعاطي مع الآخر.

وهذه أمور تدور برأسه وتحوم بذاكرته.. فلا تكاد تفارقها، إنها معين لا ينضب ورؤى تأبى التلاشي في عالم النسيان، ولا تني تنفض عنها تقادم الأيام، وتتحدى شبح الإهمال أو الانشغال عنها بما تتطلبه الحياة.. وهذه العوالم لم ترتبط بمشاعر أثيرة على قلب الإنسان بما تثير من كوامن وأحاسيس تسرح بالذاكرة حتى لكأنها ماثلة أمام ناظريه وتعيش بين ظهرانيه.
ومن هذه الصور ما يلقي الضوء على بعض أشكال المعاناة التي كان عليها الناس.. وبالتالي فإن في استرجاع نماذج من صورها تجعل المرء يدرك البون بين ما كان عليه أسلافنا، وما عليه الجيل المعاصر من نِعم حملتها إليه حياتنا المعاصرة، نعم طبعت الحياة بطابعها الحديث من تعامل ومعطيات وعلوم وثقافة.
ومن هذه الصور ما كان من أمر دور الكتاتيب في تعليم الناشئة قبل أن يعرف مجتمعنا مراحل التعليم المتطورة، وعلوم الجامعات والمعاهد العليا بشتى المراحل الدراسية التي نحن فيها الآن.
فقد كانت هذه الكتاتيب منتشرة بأحياء مدينة دمشق، لتعليم الصبية مبادئ القراءة والكتابة، وعلم الدوبيا والعمليات الحسابية الأربع من جمع وطرح وضرب وتقسيم، فضلاً عن تزويد الدارسين بعلوم القرآن الكريم وعلوم الحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية وما إلى ذلك من العلوم الأساسية التي قدمت لنا أساتذة الأساتيذ من جهابذة العلوم الذين كانوا رواداً للنهضة العلمية.
ومنهم الأساتذة: شفيق جبري شاعر الشام وعميد كلية الآداب بالجامعة السورية، الذي كان لا يحمل حتى الشهادة الابتدائية «السرتفيكا» ومنهم الاستاذ سعيد الأفغاني حجة علوم اللغة العربية، بعدد من الجامعات العربية بما في ذلك الجامعة السورية، وأيضاً العلامة محمد دهمان، مؤرخ دمشق ومحقق العديد من أمهات تراثها التاريخي، وهو الذي أخذ بيد الكثير من الباحثين بتاريخ وتراث مدينة دمشق إلى جادة الصواب، ولعل من أطرف ما حدث مع الشيخ دهمان أنه عزم الترشح إلى مجلس الشعب «البرلمان» فلم يجب إلى طلبه، لكونه أمياً لا يحمل الشهادة الابتدائية فما كان منه إلا أن ضحك وقال إن الله غني حميد.
ومن أمتع الصور التي كانت تعيشها دمشق، صورة مسحر رمضان «ابو طبلة» الذي كان يوقظ الناس إلى سحورهم في شهر رمضان، فقد كان يسحر مدينة دمشق، قبل أن يمتد عمرانها أفقياً وشاقولياً، يسحرها مسحر واحد يصعد إلى مكان مرتفع ومعه طبل كبير يضرب عليه وهو يقول بأعلى صوته:
يا سامعين ذكر النبي عالمصطفى صلوا
لولا النبي ما انبنى جامع ولا صلوا
ثم تطورت الحياة، فأصبح يساعد هذا المسحر طبل على كل باب من أبواب مدينة دمشق وعلى أبراج قلعة دمشق يضرب عليه إذا حان الامساك ثم أصبح مكان كل طبل مدفعاً يطلق طلقة إذا حان الثلث الأول من الليل وطلقة عند الثلث الثاني من الليل، وطلقة عند الثلث الثالث من الليل لتبدأ المراسلات بين مؤذني مساجد دمشق الكبرى إلى أن يحين الامساك فيطلق من كل مدفع طلقة، وعند أذان الفجر طلقة أخرى.
وأعقب ذلك أن أصبح لكل حي من أحياء مدينة دمشق مسحر خاص، ثم قسم الحي إلى مطافات لكل مطاف مسحر خاص به لا يتعداه إلى مطاف مسحر آخر فكان كل مسحر يطوف على البيوت الواقعة بإطار مطافة قبل الفجر بنحو ساعة وهو يتغنى بأقوال من المدائح النبوية والحض على الكرم، وينبه الناس إلى سحورهم، كان أمتع ما كان يقدم المسحر لنا في طفولتنا، تلك المقطوعات التي تسعدنا يعد الإفطار من كل يوم ومن ذلك مقطوعة البرغوث ومقطوعة الضراير، وكذلك مقطوعة القطة أم زليخ، يومها كان المسحر يتدلع علينا أو يبخل، فنقول له: أبو طبلة مرته (زوجة) حبلي.. فيكر علينا ونفرّ ثم لا يلبث أن يستجيب لنا، ويقدم لنا ما نريد من أقوال..
ولعل من الجدير بالذكر أن حرفة التسحير كانت تنحصر بإطار تنظيم مشيخة الكارات، بمعنى ليس لكل من حمل طبلة وفانوساً وسلة، له أن يكون مسحراً.. فالتسحير له مشيخة خاصة، شأنه شأن كل حرفة أو (كار) بدمشق وكان للمسحرين شيخ كار ويساعده شواش (ج.م: شاويش) للإشراف على الحرفة وأصولها، وكانت هذه الحرفة متوارثة، لذلك كان يرافق المسحر ولد، يساعده بحمل السلة أو الفانوس، وهذا الولد غالباً ما يكون ابن المسحر، وهو في ذلك يعلم ابنه أصول الكار، ويعرفه على أهل مطافه، وفي أيامنا هذه نستذكر أيام مسحر رمضان وأقواله وروحانيته على الرغم مما توفر لنا المعطيات الحديثة من وسائل لإيقاظ الناس إلى سحورهم.
سقى الله أيام مسحر رمضان، وإذا حاولنا التذكر فترة قريبة نجد أن من الصور التي افتقدتها مدينة دمشق، إنما هي عربات الترام (الترامواي) ذلك أن دمشق لم يكن ينتشر بها استخدام السيارات، أو التنقل بها، إلا على نطاق ضيق حتى العقد الرابع من القرن العشرين، كان الذين يمتلكون سيارة خاصة قلة، ويعدون على الأصابع، وكان لهم القيام بعرض سياراتهم في مطلع فصل الربيع من كل عام وذلك بين نزلة التجهيز (جودت الهاشمي) والربوة، وهم يتباهون بسياراتهم أمام الناس الواقفين على جانبي الطريق للفرجة.
كان الموسرون في ذلك الحين، يعتمدون على الحناطير المغلقة (لاندونيه) أو المكشوفة، بتنقلهم، ومنهم من اعتمد على السوائم في تنقله. أما الشريحة الكبرى من الناس فقد كان لها الاعتماد على عربات الترمواي بديلاً، إذا لم تتوافر لهم وسيلة أخرى للانتقال.
وقد وفر هذا الترام عبئاً كبيراً من هموم تنقل الناس بين أرجاء مهمة من مدينة دمشق، ومن ذلك المواصلات بين محلة بوابة الله بحي الميدان وإلى حي الشيخ محيي الدين ابن عربي، وكذلك إلى سفح جبل قاسيون بحي المهاجرين وإلى حي القصاع ثم إلى بلدة دوما بريف دمشق.
ولا تزال صورة الفتيان ماثلة بالذاكرة، يوم كان الواحد منهم يجمع سقط بري قلم الرصاص ليجعل منها ممحاة، وكذلك صورة من كان يتعلق بعربة الترام بحيث تجرهم عربة الترام وأقدامهم على سكة العربة، وكيف كان الشرار يتطاير من (حدوة) الحذاء لدى إسراع العربة في سيرها، ومن ذلك، كيف كان يحلو لبعض الفتيان الركوب بعربة الترام، وعدم دفع أجر الركوب، حتى إذا جاءهم الكمسياري (الجابي) يتحايل عليه فيهرب من دفع أجر الركوب.. وكيف يعمدون إلى شد الحبل الذي يربط سكة الترام المتصلة بشريط الكهرباء الذي يمد العربة بالقدرة المحركة.. الأمر الذي يسبب توقف عربة الترام، وبالتالي يتاح لأولئك الفتيان التخلص من دفع أجرة الركوب. وهم يتصايحون على سائق عربة الترام بقولهم: دوّر السكة وارجاع وأشعل الضوء الوراني.
ولما كانت منطقة المرجة، مركز المدينة دمشق، ومحط الكثير من فعاليات هذه المدينة، وملتقى المواصلات التي تنطلق إلى احيائها.. فقد أنشئت بالمرجة حديقة حول النصب التذكاري لذكرى بدء الاتصالات بين دمشق والمدينة المنورة، وأصبحت هذه الساحة مركزاً لانطلاق عربات الترامواي إلى المهاجرين والشيخ محيي الدين بن عربي، وإلى حي الميدان والقصاع، فضلاً عن خط الترامواي الذي يربط دمشق بمدينة دوما بريف دمشق.
وأخيراً لابد من القول: إن ثمة صوراً عديدة بالذاكرة جديرة بالاهتمام، ولكننا آثرنا الاكتفاء، عسى ألا نطيل على القارئ الكريم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن