قضايا وآراء

في الأفق حجر عثرة خليجي… ماذا وراءه؟

| عبد المنعم علي عيسى 

عندما أعلن الجيش السوري حلب مدينة آمنة 22/12/ كانت التراجم السياسية لذاك الحدث قد سبقته على الأرض، أما التيار الحامل لتلك التراجم فقد بدا جارفاً ويصعب على أي سدّ الوقوف بوجهه كما كان مقدراً لاغتيال السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف 19/12 أن يفعل، إذ لطالما كان من الواضح أن القائم بالفعل أراد كبح جماح العلاقة الروسية- التركية الآخذة بالاندفاع على السكك السورية، ليتبين أن الحدث- على أهميته- لم يستطع كبح جماح تلك الاندفاعة حتى ولو لساعات فقط حيث شهدت موسكو في اليوم التالي مباشرة 20/12 لقاءً ثلاثياً جمع الإيرانيين والأتراك إلى المضيف الروسي ليخرج المجتمعون بما سمي «إعلان موسكو» الذي يمكن اعتباره بمنزلة خريطة طريق واقعية لإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية على الرغم من غياب الضلع الرابع الأميركي اللازم عادة لضمان حُسن الختام في مسارات كهذه، وهو أمر لا يمكن أن يكون الروس غافلين عنه ولا باحثين أيضاً عن تحدي الأميركان ولذا فإن موسكو هي على الأرجح كانت قد حصلت على تفويض أميركي يطلق يديها في ما هي ماضية إليه.
يمثل إعلان موسكو أرضية صلبة للبناء عليها وهي في الآن ذاته ناسخة لما قبلها من أساسات وضعت لبناء تسويات عليها، تتأتى صلابة تلك الأرضية من دقة التموضع التركي الجديد فأنقرة تبدو ما بعد إعلان موسكو وكأنها قد طوت تماماً مرحلة السنوات الخمس وخمسة الأشهر التي كانت فيها على تناحر مع دمشق (الفراق الحقيقي بين أنقرة ودمشق كان في تموز 2011 بعد زيارة أحمد داوود أوغلو إلى هذه الأخيرة) ولربما يصح القول إن دققنا أكثر في ذلك الإعلان أن أنقرة اليوم هي في مرحلة تحسس جديد لمحيطها الجيوسياسي وإيلائه حيزاً أكبر في صناعة القرار السياسي وإن كان من المبكر حتى الآن القول بأن أنقرة تجري مراجعات لعلاقاتها ما وراء الأطلسي فللأمر حسابات معقدة كما أن فيه الكثير من المخاطر يمكن أن تهدد الكيان التركي في وجوده إذا ما قررت واشنطن الرد على خطوة افتراضية من هذا النوع.
إلا أننا هنا لابد لنا من أن نسجل نقطة هي على درجة عالية من الأهمية ومفادها أن العلاقة التركية- الأميركية مصابة بشرخ عميق أكبر مما تظهر، وقائع أو حقائق تلك العلاقة في مسارها المرئي أو المسموع.
هذا المسار الذي وضعت أنقرة فيه خطواتها الأولى اقتضى بالتأكيد متغيراً جذرياً في طبيعة علاقاتها مع الفصائل المسلحة السورية وهو ما أظهر تكيفاً جدياً فيه عبر الإعلان عن طلاقها البائن مع فتح الشام (النصرة سابقاً) بعد ما يزيد على خمس سنوات من العلاقة الوطيدة معها.
صحيح أن تلك العلاقة لم تكن جميع مراحلها حلوة وأنها كانت تمر في مد وجزر تحدده المناخات الإقليمية والدولية إلا أن أنقرة لم تتخل يوماً عن رهانها في أن تستطيع النصرة تطويع الفصائل الصغرى ومن ثم تطويعها هي بمن طوعتهم تحت الراية التركية، وقد كان ذلك واضحاً على الرغم من أن جبهة النصرة كانت كثيراً ما تعمد إلى إظهار تناقض مشاريعها السياسية مع نظيرتها التركية، ظهر ذلك في الكثير من المحطات مثل رفض قيام المنطقة الآمنة في الشمال السوري (آب 2015) التي كانت تمثل في مرحلة سابقة كبرى الاستراتيجيات التركية، لكن وعلى الرغم من ذلك فإن أنقرة لم تفكر في رمي «العقب» النصراوي لنرى أردوغان يوجه سؤالاً أقل ما يقال فيه أنه حمّال أوجه إلى الأميركان حزيران 2016 يقول فيه: لماذا أنتم تصنفون جبهة النصرة تنظيماً إرهابياً؟ ومن بعدها نراه يوجّه بضرورة إعلان جبهة النصرة انفكاكها عن تنظيم القاعدة الأمر الذي أعلنه أبو محمد الجولاني 27/7/2016 لكن ليتبين أن الحدث كان أقرب لأن يكون بيعاً للماء في حارة السقائين أو أنه كان بضاعة كاسدة لم تلق من يشتريها أو من يساوم عليها.
إلا أن اللحظة المصيرية فيما بين الطرفين كانت كما يبدو في إعلان مولود جاويش أوغلو تبين لقاء أردوغان بفلاديمير بوتين في سان بطرسبورغ 10/8/2016 حين قال: «إن بلاده على استعداد لاتخاذ قرار مشترك مع روسيا بشأن مكافحة داعش وجبهة النصرة» لترد عليه النصرة بعد أسابيع بفتوى تحرم الاستعانة بالجيش التركي 23/9/2016.
هذه المعطيات كلها تؤكد أن إعلان موسكو بات أكثر أهمية حتى من جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التي اختص بها الأزمة السورية (15 قراراً) إذ سرعان ما تبدت مفاعيله بعد أقل من 48 ساعة على صدوره حيث ستقوم أنقرة بتوجيه تحذير إلى الفصائل المسلحة السورية يحظر عليها الذهاب نحو اندماج انتحاري مع جبهة النصرة الأمر الذي سيعرضها إلى الاستهداف.
أهمية هذا التحذير تتأتى تلقائياً بعد عرض سريع للخريطة الحالية التي تظهر تراصف الفصائل المسلحة فيها وجميعها تنتمي إلى أحد معسكرين فالأول يضم أحرار الشام وفتح الشام (النصرة) ونور الدين الزنكي- أجناد الشام- الجيش الإسلامي التركستاني والثاني يضم جيش المجاهدين- جيش الإسلام- الجبهة الشامية- فيلق الشام- جيش النصر- استقم كما أمرت، التحذير التركي يتيح أن تذهب الفصائل المسلحة كلها (وهو إيجابي) إلى اندماج تام فيما بينها ما عدا جبهة النصرة ما يسهل التعاطي معها لاحقاً.
أولى العثرات التي تبدت في طريق إعلان موسكو كانت كما هو متوقع صادرة عن التكتل الخليجي برأس حربة قطري بعد أن أعلن محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وزير الخارجية القطري 26/11/2016: «إن قطر سوف تدعم الفصائل المسلحة السورية حتى ولو تخلى دونالد ترامب عن فعل ذلك» وهو ما يؤكد وجود نفس خليجي عام يرى أن استبعاد دول الخليج عن النواة الصلبة التي ستقلع بالتسوية السورية هو أمر من شأنه أن يضيف عامل وهن صارخاً إلى الجيوبولتيك الخليجي يتهدد استقرار الإمارات والدويلات المتموضعة فيه، وفي هذا السياق يفهم البيان الذي أصدرته حركة حماس وكذلك كتائب عز الدين القسام 14/12/2016 حول حلب الذي أوحت فيه إلى إمكان مشاركتها في الحرب السورية إلى جانب الفصائل المسلحة ضد الجيش السوري.
من المهم هنا أن نشير إلى أن كتائب عز الدين القسام (الذراع العسكرية لحماس) بقيادة محمد الضيف كانت قد اتخذت قراراً لم تتراجع عنه تنأى فيه بنفسها عن الحدث السوري وتمتنع عن المشاركة المباشرة فيه، صحيح أن العديد من اعترافات الأسرى كان قد أكد أن حماس قد ساعدت الفصائل المسلحة بتقديم الخبرات وتكنولوجيا حفر الأنفاق إلا أن تلك المساعدة كانت فردية وغير متبنّاة، بمعنى أن لاقرار سياسياً يدعمها، إصرار «الضيف» هذا دفع بالمكتب السياسي لحماس إلى تصفيته سياسياً وإبعاده عن مراكز القرار بعد أن فشلت تصفيته جسدياً فالتقارير تشير إلى أن الطيران الإسرائيلي كان قد استهدف منزل محمد الضيف في غزة 19 آب 2014 (استشهدت زوجته وابنته) إثر اتصال هاتفي أجراه معه خالد مشعل في تلك اللحظات على الرغم من المحاذير الهائلة لسلوك كهذا في ظروف الحرب.
بيان حماس الأخير خطير جداً وهو بأي حال من الأحوال لن يؤدي- ولن يكون بمقدوره- إلى تعديل ميزان القوى العسكري القائم في سورية حتى ولو انخرطت فصائل حماس كلها، الأمر الذي يطرح تساؤلاً كبيراً حول الجدوى من هذا التوجه الجديد لحماس وقطر، وإذا ما أردنا الخوض بالإجابة عن ذلك التساؤل نرى أن ذاك التوجه لن يؤدي إلا إلى إراحة إسرائيل من الضغوط العسكرية عليها فهي بعد أن عجزت عن اقتلاع حماس في أربع حروب 2008-2009-2012-2014 ها هي على أبواب أن تفعل من دون أن تخسر طلقه واحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن