ثقافة وفن

الإلحاد… والعلمانية… حوار خلّبي

| إسماعيل مروة 

عودة على التنوير ودور علماء الدين ورجاله، لكن ذلك الدور التوعوي التنويري الذي يخرج عن إطار الكهنوت والدعاء والمصالح وما شابه ذلك، الدور الحقيقي الذي أنيط بهم من المشرّع لتكون الحياة أفضل، لكنهم تنازلوا عنه، واكتفوا بصوامع مغلقة، وبأفكار أكثر انغلاقاً كل غاياتها وما تصبو إليه أن تحافظ على مؤسسات كهنوتية هشة تحافظ على كينوناتهم وقداساتهم! ولعلّ أهم قناعة لا أبدّلها أن الله قريب من كل فرد، ولا يحتاج إلى وساطة بينه وبين مخلوقاته، ولا إلى من يكون طريق مغفرة أو اعتراف، وهذا يقودني إلى أنّ المهمة الحقيقية لعلماء الدين ورجالاته- إن أرادوا- تتمثل في تنظيم حياته مع الآخر، سواء كان منتمياً إليه في المعاملات، أم إن كان لا ينتمي إليه، فهل عمل هؤلاء الأجلاء لهذه الغاية؟ أزعم أن الكثرة الكاثرة ممن وضع نفسه في مكان ديني ترك كل شيء وخصّ أتباعه، فزاد من إنغلاقهم لتسهل الهيمنة عليهم، وخوّفهم من الآخر، ليكون وحده خاصاً بهم، وليصبح الملجأ والملاذ والمخلّص والمرجع الذي ليس بعده! وهذا بالضرورة أراحه لأنه أبعد عنه مهمة تنظيم حياة أتباعه فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين الآخر! والطريف أن بعض الخاصة وكثيراً من العامة يحكمون على الشخص بالصلاح والمرجعية بقدر اهتمامه بالخاص وابتعاده عن الشأن العام! هم يريدون أحكاماً تتساوق مع الشريعة، ويريدون لسادتهم أن يبقوا بعيدين فكيف تتحقق هذه المعادلة الجائرة؟!
هالني أن يبادرني أحد الأساتذة الجامعيين بسؤال: هل صحيح أن سماحة المفتي أجاز أن يكون رئيس الدولة ملحداً؟! وقال لي: هكذا كتبت مواقع التواصل الاجتماعي على لسانه، فسألته: إن كان النص مكتوباً أم بالصوت، فعرفت أنه نقل إليه أيضاً ولم يقرأه بنفسه! وهذا دعاني لسؤال سماحته، وفي جلسة علمية سمعت منه الحديث الذي جرى في دبلن في زيارته الأحدث لأوروبا، والسياق يختلف اختلافاً تاماً عمّا حدثني به الأستاذ الجامعي الصديق، ولم أعجب، فمن ديدن هؤلاء أن يقتطفوا من أحاديثه وأقواله ما يشاؤون بغية الانتقاد، وحين دار الحديث مع سماحته أتبعه بقوله: الذي يعنيني بالدرجة الأولى ألا يتعارض قول لي مع النص والشريعة، وهذه شواهدي من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يخالف المبدأ العقلي، وأن يخدم البلد والأمة، سواء اقتطعوا أم أبقوا.
وفي اليوم التالي سمعته في لبنان يقول كلاماً كله الحب والود لبناء علاقات إنسانية مهمة، وكانت المفارقة المؤلمة أن من يدّعي شيئاً من العلمانية والعلمية دعا إلى مصادرة رأي سماحته، فهو لا يريد أن يقتنع، وينكر عليه دوره في إسعاد الإنسان والبحث عن سبل رفاهه، في الوقت الذي يطالب فيه مرجعياته أن تخوض في مسائل أكثر تعقيداً وحساسية لخدمة مآربه!
أذكر أنني كتبت مرة في حديثي عن سيرة سماحته كما أعرفه عن قرب، فقلت: إنه عالم جليل لا يضع نفسه في قالب شرعي، بل يرى أن مهماته أوسع من ذلك، فهو ليس مكتفياً بالجوانب الشرعية، وإنما يؤدي للإنسان مهام اجتماعية عديدة، وحين قرأ لم يعترض، وقال: هذه سعادتي بدوري، وهذا دوري الحقيقي بأن أسعى لسعادة الإنسان واستقراره، أما النص فهو موجود في الكتب ويمكن أن يسأل عنه المرء فيحصل على جوابه… أما حياتنا وتنظيمها وعلاقتنا بالآخر فهي من صلب مهام أي معني بشؤون الناس، ومن باب أولى برجال الدين.. عندها عرفت تفسير ما أسمعه، سواء كان مجاملة أم قناعة من بعضهم: إن سماحته هو المفتي العام للسوريين بمختلف شرائعهم وطوائفهم ومذاهبهم، وبفهمه العميق يمكن أن يكون لهم جميعاً، لأنه يهتم بشؤونهم لا بعقائدهم، أما من أراد في العقيدة فله جوابه الذي لا يصل بخطورته إلى تنظيم الحياة. إنه الفهم الحقيقي العميق لدور التنوير المنبعث من أعماق فكر تراكم حتى صار مرجعية لا للكتب وإنما للحياة… عندها سنعرف أبعاد ما كان من حديث دبلن ولبنان والإنسان.
لكن أليس غريباً إعلامنا وإنساننا العربي، على اختلاف شرائعه ومذاهبه وطوائفه؟ والغرابة تأتي من شخصيات ومنابر يفترض أن تكون أقرب إلى العلمانية، فينبري أحدهم لتناول زيارة سماحته إلى لبنان، أو حديثه في دبلن، بل هناك من استيقظ بعد كل هذه السنوات ليتحدث عن خطبته في الاتحاد الأوروبي، أرجوكم لا تتوقفوا عن الحديث والقراءة والتعليق، ولكن اسمعوا قبل أن تتحدثوا، وحاولوا الوصول إلى هوامش حديثه الإنساني العالي، فلن تتمكنوا بهذه العقليات أن تصلوا إلى الجوهر الإنساني، ناهيك عن الجوهر الديني العميق الغور البعيد المسافة! هذا الذي يجلس لينتقد ويجرح هل وعى أنه يطفئ نوراً وهاجاً أو يحاول؟! ليس من منطلق المعرفة أو الصداقة الممتدة لعقود، ولكن من الملاصقة التي قد لا تتاح لكثيرين أقول: عبر عقود لم أستطع أن التقط في ممارساته وعباراته وآرائه ولقاءاته وخطبه ما يمكن أن يجعله ابناً لجهة ما على حساب أخرى، ولم أجد انقلاباً على رأي، فهو الأدب والعمق الذي يناسب أبا الأديب، وهو الفلسفة والعمق حين يتطلب الأمر، وهو الدين والتسامح وعمق المعرفة حين يكون الدين محوراً، وهو الوطني الذي لا يقترب من مفهوم المواطنة والانتماء عنده أي شيء… وقد أثبتت التجارب أن الحيوية في دمه، ولن يتراجع سماحة المفتي الدكتور أحمد بدر الدين حسون عن أن يكون نوراً هادياً، ولا أبالغ إن قلت: المصباح السحري في ليل مدلهم…! وأنتم اجلسوا وناقشوا وانتقدوا فالقمر في سمائنا بدر، وكلنا أمل ألا يفتقد هذا البدر مهما ادلهّمت الخطوب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن