ثقافة وفن

بين الآلام والأنين هناك المرأة السورية التي عانت .. فاديا محمود.. الفيلم إنساني نساؤه يتكلمن عن معاناتهنّ

| سوسن صيداوي

بين عتبات الحياة تختبئ الذكريات السوداء التي تتربص بنا وبحياتنا بطريقة أو بأخرى، محاولة جرتنا عنوة إلى المكان والزمان الذي استعبد إنسانيتنا وذلها وآذاها بصور تفوق البشاعة وبطريقة لا يمكن لعقل بشري أن يتصورها، إلا إذا كان عقلا مبرمجا على تطبيق كل صنوف وأشكال الإرهاب، وتتم تغذيته وشحذ طاقته بالقتل والإجرام والتعذيب، كي يصل في النهاية إلى نشوة متوحشة وحتى المخلوقات الحيوانية تعتذر بطبيعتها عند مثل تلك الممارسات والغرائز، التي ومنذ التاريخ الأول للبشرية كانت ومازالت كل الحضارات والحيوات المتتالية تسعى بكل جهد إلى تهذيب البشر وترقيتها بفكرها وغرائزها وبكل تكويناتها النفسية والمشاعرية، ولكن وللأسف الشديد وما هو مخيب للآمال في الوقت نفسه، التفكير فيه هو أمر مرعب ويقطع الأنفاس، وخاصة أن هذه الأدوات البشرية الإرهابية الممنهجة أصبحت واقعاً وذاق من جنونها وفظاعتها ورعب حتى أخبارها المتناقلة، هذا إضافة لممارستها، أعداد لا يمكن إحصاؤها من الشعب السوري، فبين الأنين والوجع، وبين الذبح والاستمتاع بالسحل والضرب، وبين القتل وترجي الموت، هناك مسافات وأوقات رغم تباعدها في المكان وحتى الزمان، إلا أن الجامع لها هو الوجع والصراخ والعذاب الذي لا يمكن تصوره من جهة، والجغرافيا السورية من جهة ثانية، هذا قليل عما صوره الفيلم الوثائقي «وجع» الذي أُطلق في دار الأسد للثقافة والفنون في دمشق، ضمن نشاطات مبادرة «ورد» التي تقيمها الجمعية الخيرية للتنمية المستدامة، وتخلل الفعالية عدة فقرات منوعة منها غنائية قدمها أطفال «كورال ألوان» بقيادة المايسترو حسام الدين بريمو، وتم خلال الحفل عرض فيلم توثيقي عن نشاطات الجمعية في نشر مفهوم المواطنة الفعالة وورش التدريب بالإضافة إلى فيلم تعريفي بمبادرة «ورد» التي أطلقتها في 8 من الشهر الأخير من العام المنصرم، والتي تهدف بطبيعتها إلى نشر التوعية المجتمعية بأهمية مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي وإعادة تأهيل الأطفال المشردين والمتسولين مع تأكيد مسؤولية المجتمع في القضاء على هذه الظاهرة، ومن فقرات الفعالية كان كما ذكر أعلاه عرض الفيلم «وجع» الذي سلط الضوء على معاناة المرأة السورية خلال الحرب الإرهابية على سورية في السنين الست الماضية.

تعريف بالفيلم

تمّ عرض الفيلم الوثائقي «وجع» ضمن فعالية «ورد»، وهو من نتاج جهد زوجين تقاسما مهام العمل فيه، فالتأليف والإعداد كان من مهمة «فاديا محمود» وهذا الفيلم هو التجربة الأولى لها، أما الإخراج فكان مهمة زوجها «إدوارد ميا» الذي دعم زوجته وخاصة في إنتاج فكرة الفيلم الذي كان في بال الكاتبة منذ سنوت، والجدير بالذكر أن الفيلم شاهد النور وتمّ عرضه بجهد شخصي بين الزوجين ومن دون أي رعاية من وزارة الإعلام.

انبثاق من وجع
الألم أو الوجع هو حاضر في المشاعر الإنسانية، الذي هو لابد أن يكون ضرورة كي ترتقي النفس إلى الإنسانية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمرأة فهذا الألم يصبح أمراً له حساسيّة وخاصة أنها مع الطفل كائنان ضعيفان بتكوينهما وهما من يعانيان أكثر من الرجل وخاصة في زمن الحرب، هذا ما أشارت إليه فاديا محمود «في ظل هذا الإرهاب الذي يصدّر لنا من كل دول العالم، المرأة والطفل هما ضحيته، فالمرأة هي الأضعف ولأنها لا تحمل سلاحاً يتم الانتقام منها بصور مختلفة، وجاء فيلم «وجع» كي يوثّق شهادات حية لنساء سوريات تعرضن لصور الإرهاب البشعة في أماكن مختلفة في سورية وبعدة محافظات، كما يعرض الفيلم فترتين، الأولى قبل الأزمة ولغاية عام 2011، ونحكي خلالها عن حالتها القانونية والاجتماعية وكيف كانت حالها في القوانين مثل قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات، وأشكال التمييز التي كانت تعانيها المرأة، ورغم ذلك كانت المرأة السورية تقارن نفسها بالمرأة الأوروبية أو الغربية، كما تتطلع للمواطنة الكاملة، أما الفترة الثانية التي يعرضها الفيلم فهي من عام 2011 حتى اليوم، حيث يصور حالة الحرب والأساليب الإرهابية التي مورست على المرأة وكيف غيّرت حياتها وجعلتها تعاني مبتعدة عن حقوقها الطبيعية الإنسانية بعد أن أصبحت حياتها في خطر بفقدانها لعائلتها أو منزلها أو للمعيل أو بتعرضها للاغتصاب أو قتل النفس».

صور من معاناة
عالج الفيلم صوراً مما عانته المرأة السورية خلال الحرب، تنوعت بين العنف والاغتصاب وصولاً إلى القتل والتعذيب وهناك الكثير قد أضافته بشرحها عنه مؤلفة ومعدة الفيلم «من خلال شهادات حية لنساء سوريات عرض الفيلم حالات تعرضت إلى الاغتصاب، وخاصة أنه في مجتمعنا لا يتم البوح عن قضايا كهذه والنساء التي يتم اغتصابهن لا يتكلّمن، ولكنني تمكنت من توثيق حالتين أو ثلاث، ومنها جمعت إحصائية من خلال المتحدثات اللواتي كنّا على علم بمئة امرأة على الأقل تعرضت للاغتصاب، وكم هذا الفعل صعب ومسيء وبسببه لا تستطيع المرأة متابعة حياتها، وحتى التواصل بأمور الحياة البسيطة، بالإضافة إلى التحطم النفسي وعدم القدرة على الاستمرار في الحياة».

صور أخرى
خلال خمسين دقيقة من الفيلم تمّ عرض صور متعددة، فمن حلب كانت المعاناة بفقد المنزل الذي لم تخرج منه يوما المرأة كي تضيع في زحام الحياة، فاديا محمود «عرضت المرأة الحلبية المتمسكة بالعادات والتقاليد، لأنها ربة منزل، لا تخرج من المنزل أبداً إلا للضرورات القليلة، وطبعا هذه المرأة بخسارتها منزلها هي غير جاهزة للخروج من المنزل، وليست مؤهلة، ومن الصور الأخرى التي سلطت عليها الضوء وكنت سافرت بها من الرقة بعد دخول داعش عليها، فيها كانت امرأة سورية مسيحية متزوجة ومن وقت طويل برجل مسلم، وبوجود داعش قالوا لها إنها تستوجب حكم القتل أو السبي، وتلك المرأة بصوتها المتهدج هي من تحدثت عن معاناتها، ولم ينته هنا الوجع بل ذهبنا برحلتنا المؤلمة إلى حمص التي عانت الكثير من الألم وعرضت قصة امرأة سورية كان استشهد ابنها بصاروخ وتعرضت هي للإصابة».

المرأة السورية.. صامدة
لم يعرض الفيلم صور الألم والأنين بل كان وراء ذلك البؤس الذي فُرض المرأة السورية خلفه صمود كبير نابع من كونها أم الحضارة وأهم عناصر الاستمرار ومن ثم البناء والإعمار في التربية والفكر والتنشئة، من بين الصور كانت صورة تؤكد هذا الكلام وتحدثت عنها الكاتبة قائلة «المرأة هي نصف المجتمع وهي أم الشهيد وأخته وابنته وزوجته، فما عانته لا يمكن أن يعد ولكنها ستخرج شامخة وصامدة من الأزمة، لأنها وهي في ظل الأزمة والرعب قررت مع زوجها أن تقتل نفسها كي لا يتم تعذيب أطفالها أو زوجها أو تتعرض هي نفسها لأشد وأقسى العذاب فقرروا الموت معا مختارين، وهذه الصورة كانت في عدرا العمالية، ومن هنا نعرف كم المرأة السورية قوية ولها رأي وهي في النهاية صاحبة قرار مثلها مثل الرجل، ولابد لي من القول إن فيلم «وجع» هو فيلم إنساني بالمرتبة الأولى ومشاعر الناس هي التي تتكلم، ونحن كإعلام أحيانا لا نكون على أرض الواقع، ولكن الفيلم حقيقي والقصص أشخاصها هم من يتكلمون».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن