قضايا وآراء

جدلية الصراع الغربي- الشرق الأوسطي.. إلى أين؟

| عبد المنعم علي عيسى 

قامت جدلية العلاقة ما بين الغرب والشرق منذ القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد على أساس تبادل الأدوار بينهما حيث سيلعب كل منهما في أغلبية المراحل دور القطب العالمي في مواجهة القطب العالمي الآخر، وفي سياق هذه النمطية مرت العلاقة بين الطرفين بالعديد من الحروب والصراعات التي هدفت في كثير من الحالات إلى دك أحدهما للآخر وفرض سيطرته عليه تأكيداً لسيادته العالمية من دون أن يستطيع أحد الطرفين فعل ذلك إلا لمراحل قصيرة.
كانت آخر محاولات الغرب للسيطرة على المنطقة تتمثل باتفاق سايكس بيكو 1916 الذي انتهى تدريجياً بدءاً من منتصف القرن الماضي فصاعداً حتى السبعينيات منه بالتزامن مع تخلي الغرب عن إستراتيجية الاحتلال العسكري المباشر والذهاب نحو الإمساك بتلابيب اقتصاد تلك الدول وتحويلها إلى كيانات تابعة تمكنه (تبعيتها) من استعمارها أو تحريكها في أي اتجاه يريد لها أن تتحرك إليه، والشاهد هنا ظهور العشرات من الشركات الغربية العملاقة في الكثير من بلدان المنطقة التي كانت تمارس فيها دور حكومات الظل عبر التحكم بقرارها السيادي حتى غدت الحاكم الفعلي لتلك البلدان.
إزاء ذلك الواقع شهدت المنطقة برمتها حراكاً استولد من رحمه تيارات وقوى وطنية رفضت تلك التبعية للغرب ودعت إلى مواجهتها بشتى السبل حتى وصل الأمر ببعضها إلى حدود المطالبة بإحراق آبار النفط أو تفجيرها لكيلا يستفيد الغرب منها ما دامت شعوبها (أو أغلبيتها الساحقة) لا تستفيد منها، إلا أن ذلك لم يزد الغرب إلا شراسة حيث سيعمل في لاحق المراحل على إيجاد شرائح اقتصادية وثقافية (وبالتالي سياسية) مرتبطة به وبسياساته داخل تلك البلدان ثم عمل على تقويتها ودفعها باتجاه الصراع على السلطة أو على الأقل المشاركة في صناعة القرار السياسي الذي يحمي مصالحها.
ما يهمنا الآن من هذا السرد هو القول إن الغرب ما انفك يتربص بالمنطقة وقد كان طرفاً فاعلاً في إشعال نار المحرقة التي تلتهم المنطقة منذ ما يزيد على ست سنوات ولربما من دون أدنى حساب لتداعياتها المفترضة و(لكنها حتمية) أو على الأقل فإن تلك الحسابات كانت خاطئة بدليل الحالة الأمنية المتردية التي تعيشها مجتمعات الغرب فمن المؤكد أن إفرازات المحرقة «الشرقية» باتت تهدد الأمن الغربي مباشرة عبر العشرات من التفجيرات الانتحارية التي تستهدف عمقه وبشكل غير مباشر عبر القنبلة الديموغرافية التي تتمثل بمئات آلاف النازحين من الساحات الساخنة والتي تهدد بإحداث تغيرات جذرية داخل المجتمعات الغربية لعل باكورتها كانت في الصعود الصاروخي لليمين الأوروبي المتطرف الذي يدعو إلى إغلاق أبواب البلدان الغربية بوجه النازحين الشرق الأوسطيين.
شكلت الاستراتيجيات التي اعتمدها الغرب لمواجهة تداعيات المحرقة الشرقية إشكالية كبرى خصوصاً في شقها الإيديولوجي فقد عملت خلاياه الفكرية والإستراتيجية على خلق ظاهرة الإسلاموفوبيا وتطويرها لاستخدامها –كما يظن- كجدار ثقافي وإيديولوجي حام لمجتمعاته يمنع اختراقها، ولربما حققت تلك الاستراتيجيا في بداياتها الكثير من النجاحات عبر العديد من الممارسات الكارثية التي كانت تمارسها بعض التنظيمات المحسوبة على الإسلام إلا أن ذلك الجدار اصطدم مؤخراً مع منظومة القيم والأخلاق التي أفرزتها الدرجة المتطورة التي وصلتها الحضارة الغربية إذ لا يعقل (مثلاً) أن ترفع دول الغرب شعار حقوق الإنسان وتنصب نفسها وصية عليه وفي الآن ذاته تغلق أبوابها أمام النازحين الباحثين عن أدنى المتطلبات الإنسانية، هذا الصدام اقتضى (وسيقتضي أكثر لاحقاً) رفع شعارات وسن قوانين سوف تشكل تراجعاً كبيراً في مسار الحضارة الغربية إذ إن عدم مسايرة البنى الفوقية لنظيرتها التحتية من شأنه أن يؤدي إلى تخلف هذه الأولى (البنى الفوقية) وبالتالي عدم قدرتها على مواكبة التطور المتسارع الذي تحققه هذه الأخيرة (البنى التحتية) الأمر الذي سيشكل شرخاً في عملية التطور يتهدد استقرار وتماسك المجتمعات – والحضارة الغربية برمتها.
لابد أن الأوروبيين بشقيهم ما قبل (وما وراء) الأطلسي قد باتوا مؤمنين بأننا جميعاً مرتهنون بعضنا لبعضٍ وهو ما يحتم عليهم مد أيديهم لانتشالنا من النار وليس صب الزيت عليها فالأمن الأوروبي مرتبط وبدرجة كبيرة بأمن المنطقة ومن المستحيل أن تنجح محاولات فصلهما الواحد عن الآخر مهما تكن الاستراتيجيات المتبعة لفعل ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن