ثقافة وفن

لم يكن يوماً واضح الهوية الأيديولوجية  .. بيرم التونسي الشاعر الساخط والتأسيسي في المحكية المصرية

| أحمد محمد السح

خبرت المحكية المصرية مرونةً كبيرة منذ بدء الكتابة المنشورة فيها، وقد احتلت ذاكرة تأثرت بالفن المصري يوم كانت مصر الوحيدة في الإشعاع المعرفي، وقد ازدادت هذه المرونة مع تنامي الكتابة وتطوّرها في عملية تبادلية بين الشاعر والمثقف، أذكر في أحد حوارات المذيعة هالة سرحان ذائعة الصيت وقد كانت تستقبل مجموعة من الشباب في برنامجٍ لها، أن أحدهم أورد كلمة (بيتنفسن) فصفقت وهللت مستغربة الكلمة وقال بطريقتها الهتافية: (دول جيل بينحتوا باللغة). والسبب في تطور هذا النحت في اللهجة المصرية يعود أنه حين بدأ أحمد رامي بكتابة المونولوج الغنائي مع أغنية (خايف يكون حبك لي شفق عليا) أطلق العنان للانفراجة الأولى في فضاء المحكية المصرية بعد قيود رمزية وصفية عاشتها في الفترة القصيرة التي سبقته مع الأدوار وتقطيعاتها، ولكن الجيل الذي استنار بالمجتمع وكتب منه وله فبدا شعره تأسيسياً لمرحلة إبداعية ستليه، هو جيل يتزعمه الشاعر المصري محمود بيرم التونسي الذي يمكن مقاربة أسلوبه في التأسيس إلى الحالة التي فعلها أبو تمام ليخطو خطوة يليه من بعدها المبدعون.

وبيرم التونسي هو رجل توفي في 5 كانون الثاني 1961، عن عمر 67 عاماً ذاعت له قصائد عدة أبرز من غناها أم كلثوم وفريد الأطرش لكن البحث في ديوانه الكامل الصادر والمطبوع عن دار العودة في بيروت عام 1996 يظهر لنا شاعراً برز الهمّ الاجتماعي والشعبي في شعره، وطرح المواضيع من وجهة نظره الخاصة حيث اعتمد القصيدة الوصفية للحالة المشهدية من يوميات الشارع المصري من دون إطناب لغوي في عرض الصورة فهو ناظم جيد وسبّاك متمكن للألفاظ لاختراق مشهد حياتي بشكل نقدي غالباً ما يكون ذا نكهة لاذعة، ففي ديوانه الأول (يا عرب) اعتمد النقد المتواصل للشارع المصري في تلك المرحلة الزمنية عارضاً المسألة في مرحلة مياومة لينتقد اللغة التي يتكئ عليها المصريون ويعرض العلاقة مع الأجهزة والتقنيات التي وفدت إلى المجتمع في تلك المرحلة كقصيدة (البوسطة زي زمان– والتليفون) وقد استخدم بيرم التونسي اللغة الوعظية كثيراً في شعره فبدا في لغته التي ترفع بها في بعض القصائد عن لغة اليوميات ليقترب منها إلى الفصيح المرتكز إلى اللغة الدينية حيث بدا فيها قريبا من اللغة ومن المفاهيم الدينية، كما في قصيدة (برلمان الهوانم) التي يبدو فيها ساخطاً على فكرة دخول النساء إلى البرلمان ليبدو أقرب إلى التيار الراديكالي الخطابي منه إلى التيار التقدمي الذي سيظهر في مرحلة لاحقة. ففي قصيدته (الجد والهزل) نجد هذه الأبيات التي تلخّص التقعر اللغوي والفكري لديه:
«في الجد والهزل عمرنا نمشي على أشواك
وإذا بدينا التفاهم نبتديه بعراك»
وهي لغة لم يتخلَّ عنها بيرم التونسي في كل مطبوعاته الشعرية فقد عمل دائماً على تقديم الوعظ في دواوينه اللاحقة، وقد لا تخلوقصيدة له من هذه النبرة ولكنها أحياناً تحتل شكل وهدف القصيدة ومضمونها، وهذا ما يرد بشكل واضح في قصيدته (تلات حاجات) التي يبدو فيها بلغته القريبة للفصحى معبراً وبشكل واضح عن النفَس الوعظي ومنها نختار:
«تلات حاجات تحطهم في مهجتك
رزقك، وعرضك، والدفاع عن أمتك
رزقك تصونه بالمعرفة
من أي شيء تبقى التجارة مصنفة»
هذا النفس الذي يتميز به بيرم التونسي يوضح أنه لم يكن يوماً واضح الهوية الأيديولوجية لنقول إنه تقارب مع الفكر الاشتراكي الذي حضر بعد ثورة 23 تموز 1952، فهو حتى أنه لم تتأثر لغته ويتغير مع تغير المد الفكري إنما نجده أقرب إلى الشعب، الشعب فقط غير المؤدلج، حتى عندما نريد أن نجد تقاطعاته مع الفكر الإسلامي، نجده في راديكاليته هذه يشبه راديكالية أهلنا وأجدادنا لا أكثر فهو ليس ذا صفة تنظيمية واضحة، وهو شاعر يقول عن الإسلام وفي الإسلام لأنه بيئته وفهمه الاجتماعي وثقافة أبيه وجده، فهو ينتقد الشخصيات الدينية ويذكرها في كثير من قصائده ولربما خصص أحدها للتهجم على مسؤولين في عهد الملكية في مصر وفي عهد الجمهورية الناصرية لمساسهم بقوت الشعب واحتياجاته من خلال مناصبهم الدينية مثل قصيدة (ناظر الوقف) التي ظهرت في مجموعته «شمس الأصيل» التي يهاجم شخصاً رتبته أشبه بالمتصرف بالشؤون الدينية وجدت في عهد الملكية ثم ألغيت، وبيرم التونسي هنا يهاجمها ليظهر نفسه السياسي الساخط، فقد عانى الفقر والنفي والاضطهاد ثلثي حياته وأكثر بسبب السياسة، لذلك جهد لتسخير القصيدة لتكون مشابهة لكلام الناس، حتى توصل إليهم السياسة في شكلها البشع الذي يخرج عن الأسلوب الخبري المنمق، فجهد ليكون مذيعاً في قصيدته بالطريقة المغايرة لرصانة الإذاعة والمذيعين سابقاً، لا بل إنه تبدو بعض القصائد التي يقولها مغرقة في ألفاظ جلفة لم يعمل على تهذيبها إنما أوردها بفظاظتها من المقهى والشارع والحانوت لربما مطلع قصيدته (الدروس الخصوصية) مناسب ليعطينا انطباعاً عن ثقل اللفظ:
«جحلوف دخل من شندويل بخلقته المكلبظه»
في شطر واحد نجد ثلاثة ألفاظ فظة وغريبة، يفتتح بها قصته ربما ليسترعي انتباه المستمع ويعطيه العبرة، وهو ما جهد على فعله، فقد عمل باستمرار على جعل القصيدة عبارة عن حكاية، أحياناً تكون طويلة وتعد أطول قصائده هي الحكايا، التي كان يورد فيها الأسماء والحوارات ويجعل الشخصيات تتصارع على لسانها، وكأنها في مسرح، وهو يعمل على نقلها إذاعياً بلغته النظمية المبهرة. وأنت تقرأ القصيدة تتابع هذه الحكاية لتعرف العبرة، وهو أسلوب استخدمه عبر دواوينه كاملة ولم يتخلّ عنها على الإطلاق ومنها (الهتاف– الحب– أم مرسي– حفلة الميلاد– النفاس– غني حرب– المأذون…) وسواها الكثير، ولكنه في كل ما فعل لم يتخلّ عن البراءة، البراءة الطفولية في الترنيم والتهزيج، فهو يذكرنا بتفتقات مواهب طفولتنا حينما كنا نصنع نغماً ونسجع في بضعة ألفاظ لنخترع لازمة ونرددها بأسلوب غنائي.. لقد فعل بيرم التونسي ذلك في كل حياته ولم يتنازل عنه، لذلك استطاع اختراق الشوارع التي سكن فيها في منافيه، وقد كانت طفولته وشغبه يوقظان السلطات المحلية والمستعمرة، لقد نفته مصر إلى تونس، ومن ثم إلى فرنسا، وبعدها إلى دمشق، ومن ثم تسلل إلى مصر، كل ذلك من تفاصيل درامية تجعل من حكايته مثاراً للاهتمام بما يتوازى مع شعره فقد كان مثيراً للشغب بالقدر نفسه الذي كانت حياته مثيرةً للتعب. ولم تهدأ أحواله طويلاً، وحين جاوره الفنانون في تلك الأيام وأخذوا من شعره (الآهات– والأولة في الغرام– هو صحيح الهوى غلاب– شمس الأصيل– أنا في انتظارك– القلب يعشق كل جميل.. مع أم كلثوم، وأحبابنا يا عين وهلّت ليالي مع فريد الأطرش..) وله أعمال مع نور الهدى وشهرزاد وسواهم، فقد صنع لهم كلاماً لطيفاً يمكن أن نجده قريباً من شعره غير المغنى من حيث الفكر، ولكنه بعيد من حيث اللفظ فلقد جعله أكثر سهولة وملاءمة وهو ما لم يورده في ديوانه على الإطلاق، باستثناء قصيدة شمس الأصيل التي نالت مجموعته الثالثة عنوانها كاملاً ولا يذكر الباحث طاهر أبو فاشا في تقديمه للمجموعة الرابعة (أزهار وأشواك) سوى السيرة الذاتية، وبعض الأخبار عن بيرم أما عن محتوى النصوص وترتيبها وتزامنها لم يرد الكثير، وهو أمر مثير للكثير من الأسئلة تحديداً أن بيرم التونسي نفسه أقلق أمير الشعراء أحمد شوقي فقال عنه يوماً ما: (إنني لا أخاف على الفصحى إلا من أزجال بيرم). لذلك فإن هذه العبارة تؤكد دور بيرم في الشعر المحكي المصري، وتؤكد أنه نموذج راق يحتذى به من حيث المسلك والدرب ليكون في كل بلد بيرم وهو الذي نحتاجه كثيراً في محكيتنا السورية الجميلة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن