ثقافة وفن

لوعة الغياب بعد العهد…لمى طباع في «أنت حلم».. عالم من المشتهى!

 إسماعيل مروة : 

حين يغيب من لا يتوقع غيابه تحضر الذكريات، تتخاطر الأسئلة إلى الذات الباقية، تنهمر الذكريات التي لم يكن أحدنا يلقي لها بالاً، وتنبش من الذكريات تلك الحوادث التي تبقيها في عالم الحلم، وفي (أنت حلم لا ينتهي) تصنع لمى طباع من حروف مجموعتها الشعرية، وأظنها الأولى صرة من الذكرى التي تخيطها بحروفها، وتستودع فيها كل ما كانت تشتهي ألا ينتهي، وتجعله حلماً تعيشه اللحظة، وقد يمتد ما تبقى من عمر، وفي حياكة الحلم ما يدل على واقعية وإيمان بما حدث، فالحلم ينكص إلى الداخل، وعلى المرء أن ينقش حرفه الحلم ليسترده ساعة يشاء، من دون أن يوقفه عن صياغة واقع مختلف.

تفاصيل وهوامش
في حياة كل منا من التفاصيل ما يكفي، ومن الهوامش ما يغني، ولكننا في سيرورة الحياة لا نعتني بهذه التفاصيل، ولا نعطيها أهميتها، فكم من مجريات يومية تتشابه مع الأيام؟! ولكننا فجأة عندما يحدث ما يهزنا نقوم باسترجاع كل الهوامش التي كانت عادية، ولم تكن لتطربنا في حينها، ومن ثم نحوّل العادي بقراءتنا إلى نبوءة، ومن ثم نبدأ طرح التساؤلات التي كانت غائبة في سياق اليوميات.. هذا ما جاء إلى خاطري وأنا أقرأ مجموعة (أنت حلم لا ينتهي) فقد رأيتها تدور في عالم من الحلم الخاص الذي حاولت قدر الإمكان أن تحوله إلى عام بمشاركتنا لعالم الحلم، وبصياغة ما يمكن أن يلتقي معنا وبنا في حالات مماثلة، وفي هذه الحالات الكثير من الشجن الذي يمتع ويؤلم في الوقت نفسه، خاصة عندما نلمس الانهيار الداخلي الذي لا تستطيع الكلمة أن تخفيه عن أنظارنا
أحتاجك جداً
لنظرة ثكلى
تحضن روحي
تلهمني حرفاً
ضاع بين
الصحوة والسكرة
لهمس يدغدغ أذني
ويسري بعده
في جسدي
نسيماً من النشوة
من المؤكد أن المخاطب ليس موجوداً، وقد وشت بذلك كلمة (ثكلى)، والمخاطب يحمل صفتين مجتمعتين، الأولى فكرية لها علاقة بالحرف والإلهام، والثانية روحية جسدية، تقترب بها الشاعرة من أنوثة محرومة لغياب همسة تدغدغ الأذن في طريقها للنشوة التي غابت عنها، فالحرمان واقعاً وحلماً هو الذي ساق الشاعرة إلى التعبير، وإن كانت قد أوقفت سيل الحديث الذي بدأته احتراماً للحلم الذي لا تريد إنشاء سره، خاصة عندما يكون الليل البارد هو التعبير عن جفاف حياة وليل وروح
يحلفه بالغالي الغائب
ألا يفشي الخبر الوالع
عن شوقي وحنيني
عن لهفة قلبي المنتظر
في ليل صيفي بارد
أطفأ لهيبه صقيع روحي
ودموع شاردة في عيون تائه
وهذا ما تشي به قصيدة أخرى تحمل اسم (غياب) في محاولة للإيهام بتغير الأمر، لكن ربط القصائد يجعل القراءة أكثر وضوحاً، وقد لا أكون مغالياً بأنه لو حذفنا العناوين والأرقام كان النص واحداً:
سألتك مراراً ألا تغيب
ألا تهجر قلبي
وتهرب من عيوني
سألتك ولكن
لا مجيب

أسهر وحدي
أحلم باللقاء يوماً

وراحت أنفاسي
تنفخ الهم والحنين
مع كل شهيق
ونافذتي
تنتظر المغيب!!
يصل الأمر حداً يرجو فيه المتحدث لحظة المغيب! وقلما يحدث ذاك، فكل ما يتمناه المرء أن تبدأ لحظة الصباح، وأن يظهر النور ليخفف من وطأة الليل وشدته وعتمته، لكن الشاعرة تتحدث عن المغيب، وتقصد المغيب الحسي لعلها تلتقي بالحلم الذي تنفخ الهم والحنين من نافذتها وهي تنتظره، لكنها تبقى مجرد أمنية مغلفة برغبة عدم التحقق، لكنها إخلاص لحلم كان.

بين حلم ووطن
بحثت الشاعرة عن الحلم، عن الوطن المشتهى فرداً وجمعاً، ولم تجد بداً من الكتابة لوطن أحبته، وهو يضم الحلم الذي عالجته في كل كلمة، فخاطبت وطنها بنص
يسألونني
وطنك مختلف
عن كل الأوطان
تكتبينه بحروف مميزة
ترسمينه بريشة سحرية
تعطينه ألواناً جذابة
تقرئينه بلغة مخفية
فما هو هذا
الوطن الغريب؟
وقفت عند هذا النص لأكثر من سبب، فهو بحاجة إلى إعادة نظر، واليوم يكثر الحديث عن الوطن، وتنهمر الكتابات عنه، والوطن بكل تكويناته بحاجة إلى قراءة مختلفة فيها من العشق والصوفية والوجد ما فيها، ولكن هذا النص كنت أتمنى أن يغيب عن المجموعة، أو أن يعمّق أكثر، فالعبارة إنشائية، وليست شاعرية بمستوى الحلم الذي خاطبته في النصوص الأخرى، وعند قراءة النص نكتشف أنه وقفة ارتجال سريعة لخاطر وطن عزّ على الشاعرة ألا تقف أمامه، ولكن دهشتها بالحلم أبقتها على شط الوطن من دون غوص بالصورة وصوفية العلاقة مع الأسمى الذي يحتوينا ويحتوي أحلامنا!

الأرق مصدر الصورة
أعذب ما في المجموعة أنها تصدر عن صدق اللحظة، ولوحتها همسات باردة توضح الأرق الذي تعيشه الشاعرة، لكنها أرق البرودة:
وسادتي الخالية
إلا من عبق روحك
تؤرق أحلامي
وأنت وحدك أنت
تدفئ كياني
تشعل النار
في أوصالي
وحدك أنت
يا حلماً
في ذاكرة وجداني
وحدك
تنسيني عتمة الليل
(أنت حلم لا ينتهي) أول حروف رسم عالم الحلم المشتهى الذي غاب من دون إنذار، وربما كان أول الحروف لرسم عالم من الواقع، لذلك خاطت الشاعرة حلمها في صرة من المشاعر والصور قبل أن تمحوه ذاكرة الواقع، لتبدأ حلماً جديداً تصنعه بنفسها ولا تنتظر غيابه، تتلمسه في كل فاصلة حتى لا يؤرقها حلم جديد، وذلك في مجموعة أخرى قادمة يصنعها عشق الكلمة، والصورة المحلقة غير المؤطرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن