ثقافة وفن

هنا دمشق.. جدائل دم ورصاص … نلعب الشطرنج ونشرب نخب الموت الآتي .. لا حسد في صحبة اللـه فكل زواره أموات!..

| سارة سلامة

حكمت داوود ابن مدينة القامشلي الذي يعمل بمجال تصميم الأزياء في الدراما السورية وشارك بتصميم الملابس في مسلسلات عدة منها ليالي الصالحية، باب الحارة، ضيعة ضايعة، بقعة ضوء، وغيرها من الأعمال ومضى على عمله قرابة 20 عاماً قدم فيها الكثير من الأعمال، اليوم داوود يضع بين أيدينا مجموعة شعرية من تأليفه بعنوان «جديلة قرب النهر»، وصدرت عن دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية.
بألفة اليومي ودهشة السؤال، وعبر منمنمات من عبق الحياة وتفاصيلها يمتزج عند الشاعر حكمت داوود هديل الروح بعويلها، كما لو أنه عاشق أبداً..

وكما لو أنه على حافة الفجيعة وفوق مصاطب الخيبات كما لو أنه يصرخ أو يستصرخ بتمرد حالماً مفرداً ثائراً عاجزاً مثل بلاده الذاهلة.
وينسج من قصيدته المجدولة بوجع الدم وشغف الآلهة، ليعيد تشكيل الحياة ويصنع من صلصالها قُبلة لحبيبته.. أو فراشة لصبيين يلعبان.. أو معطفاً لعجوز تحت هذا العراء.
في هذه الأجواء المشحونة بالهم والمشبوبة بالعاطفة، يصطاد الشاعر صوره الشفيفة، وهي تتماوج مع سردية محببة تلتحف بالوجود والعدم، ليمسك باللاذع منها في لحظة تلبُسها، وهي تبحث عن زغب رغباتها في ضوء الصباح..
هذا ما جاء في تعريف المجموعة الشعرية بقلم سعيد البرغوثي، أما الإهداء كما ورد في مقدمة الكتاب للمؤلف حكمت داوود:
للغصن المملوء بأزرار الورد
للقمر المضيء منارةً لي
وأنا في هوجاء الريح أغرق كل يوم
نسرين
«جديلة قرب النهر» تشكيلة من ألواح شعرية ودائعية للأزمنة التي عبرها حكمت داوود ولم يتوقف عندها أو توقفه، لكن الأمكنة و«دمشق»، بالذات هي التي عطلت الشاعر وأكرهته على العودة إلى قبل ست سنوات من الحرب، حيث الحياة بكل معانيها والموت بكل ألغازه يعيشان جنباً إلى جنب، وفي رخاء لهما، كأن الشعر هنا يتشبّه بالسياسة في تقطيعه للحياة نفسها، من كان يحفل بتفاصيل الموتى، ومن كان يبصر الموت بأم عينه، يتلمسه ويحضنه في أزمان كثيرة، من كان يريد أن يعيش أكثر في بلد يكون فيه العيش مستطاعاً بكل شساعته لقد بات الموتى يرثون الموتى، وأصبح الاحتفاء بالموت والتغني به عادة وفولكلوراً رسمياً لسورية، كأنه احتفاء بالحياة، ومع ذلك ظل الشعر يقصي بنفسه مجرباً تقديم معنى آخر للموت والهلاك والفتك المجاني، لتتحضّر اللغة لمعركة برهنة البقاء والهجرة عبر تغيير الكثير من معاني ومفردات ودلالات الحياة اليومية والذهنية، وحكمت داوود عرف جيداً رغم التباس اللغة، أن الشعر لا يموت أبداً.
قوس النصر
هو حين تنقل الأم وليدها
من مشرق النهد
إلى مغربه
وهي ترسم بسبابتها والوسطى
تدفق اللـه
في شفاهنا الظامئة
لا حسد
في صحبة اللـه
فكل زواره
أموات!..
لن تمطر
مادام الوقت
لم يحن للقبل
هنا دمشق
جدائل دم ورصاص
نلعب الشطرنج
ونشرب نخب الموت الآتي
نجدل شعر الخانات
بالأبيض والأسود
ولا نكترث
مادامت اللعبة
ستنتهي
بموت الملك
وفي إسقاط على واقع الحرب في شعره يصف السواد الذي قدم به الغرباء الدواعش وعاثوا ببلدنا خراباً، فالحرب صعب أن تسلبه من الشعر والتشكيل والحب.
داعشيات
نساؤنا حور عين
وعذريتكم فرض عين
الأوطان التي ورثناها
بناها بسطاء الناس
في الصندوق المليء
بالأصوات
كنت الأبكم الوحيد
أبحث عن
«وطن حر وشعب سعيد»
يحاول داوود احتضان الفاجعة السورية ولملمة الألم السوري فهو يعتبر أن السوريين تزاوجوا مع مأساتهم وأصبحت شيئاً معتاداً فهم لا يحبون التطبيل أو النظر إليهم بعين الشفقة، هم شعب صبور عنيد يمتص كل الصدمات وحيداً لأنه مؤمن بمقدرة رب العالمين على الخلاص.
نحن السوريين أرهقتنا
إبداعات الراقصين
على موتنا
نعيش كالموتى سالمين
نحصي مع الآلهة
حسناتنا
اتركونا هكذا
فنحن نتقن لغة اللـه
وهو أيضاً يغض النظر
عن سيئاتنا
يتكلم الشاعر واثقاً ومؤمناً ببلده وبأحقية العيش والتضحية من أجل الأرض فهو على يقين أن الغرباء الأوغاد لن يستطيعوا أن يمروا مهما بلغوا من قوة وعزم فهذه الأرض لنا رغم كل الدمار والخراب الذي أحدثوه وتبقى في عيوننا رغم كل الخراب أجمل من أي بلد آخر.
هذه البلاد لنا
تمرها
وزيتونها
بحرها وبرها
هذه البلاد لنا
بخرابها.. برقيّها
بحريتها.. وسجنها
أيها الأوغاد هذه البلاد لنا
أطلقي عصافيرك
وسرب الحجل
إني ألملم بقية سنابلي
قرباناً
لبيادر الروح المتعبة
أنا الريفي البسيط
من حقول الجزيرة
فعل بي ما فعل
«زيوان» القمح
في حقلي
في المدينة والشارع وضع ذكرياته وعاد بكل تفاصيلها لزمن يعشقه ولا يغيب عن ذهنه منظر المطر وهو ينهمر وتعود به التفاصيل لتذكر محبوبته في شيء من الحنين والشوق لأيام مضت ورحلت تاركةً غصة بالقلب وألم الفراق.
كثيراً
ما أنساني
على رصيف الشارع
والسماء مطر من كلمات
أراك تمطرين عليّ قصيدة
فأكتبك مبتلاً بالرذاذ
ولحظاتي ندى
يا لخفقة الروح في هذا المدى
أين المداد
أين الشعر
أين الصدى
كثيراً
ما نشرب الشاي
ونمضي
ننسى
إنّه قد أذاب عشقه
في شفاهنا
الظامئة
أنا ابن الجان
واللبوات
ولدت وفي كفي حفنة حنطة
تنساب من بين أصابعي
على طول البلاد
في خيش جرار الماء
زرعتها
وفي الطرقات
أنا ابن الجان
امتد حقلاً في سنين القحط
حتى الممات
يصف داوود حالة بلادنا من فقر وموت وحالة أمهاتنا التي لا تحزن رغم كل الآهات والعذاب فهنّ دائماً على ثقة بأن هناك جميلاً آتياً، ويقول إن المصاعب اجتمعت علينا فأصبحنا في بلدنا غرباء وأفضل أو أسهل ما يمكن أن نفعله في هذا الفقر والعذاب هو الموت.
زغردي يا أمّي
زغردن يا نساء المدينة
في صمت هذا الفجر الجليل
هناك قرب النبعة
يضيء نهراً
مدلى من خاصرة البلوط
وتنزف الياسمينة
دمعة
بئس إله
يتسلى بالعبيد
في عيد
فقرِه السعيد
كأن مسّ بنا المطر
وابل عشق
من سماء اللـه
انهمر
قد نالت منّا المحن
فأفضل العيش
في هذه البلاد
أن نموت
بلا كفن

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن