ثقافة وفن

أسلوب منمّق تأثيره كتأثير الشعر … أوغستو مونتيروسو.. دقة الكتابة لديه تنبع من الخوف الحذِر في اختيار الكلمة

| سوسن صيداوي

ولد أوغستو مونتيروسو في 21 كانون الأول عام 1921 في هندوراس، عاش معظم حياته في أميركا اللاتينية، كان في المكسيك من عام 1944 إلى عام 1953 طالباً ودبلوماسياً في خدمة الحكومة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ غواتيمالا، عمل قنصلاً في بوليفيا وعندما تمّ عزله من منصبه، هاجر إلى تشيلي حيث عمل عدة أعمال منها سكرتير تحرير في صحيفة «غاسيتا دي تشيلي»، أعماله المقدمة ليست كثيرة تضم ثلاثة كتب نُشرت جميعها في المكسيك، وعناوين هذه الكتب هي: الأعمال الكاملة وقصص أخرى 1959، والشاة السوداء وحكايات أخرى 1969، وحركة أبدية 1972، ظهرت أعمال مونتيروسو في المجلات وتمت ترجمتها لعدة لغات وتم الترحيب بها كأهم الكتب كما حاز العديد من الجوائز العالمية.

في الأسلوب
ظهر مؤلف الشاة السوداء، مميزاً نفسه بأسلوب منمقٍ، واهباً عمله تأثيراً شعرياً، كما تتميز طريقة الكتابة لديه بدقة فائقة في كل صياغة، وبحذر شديد في اختيار كل كلمة، وبشكل خاص في أدب مثل أدب أميركا اللاتينية الذي يفيض بغنى المفردات والاستعارة الباذخة فيه كقاعدة للكتابة، وكما يقول مونتيروسو إن سبب حذره في أسلوبه هو الخوف لأنه تعلّم بنفسه ولم ينظر إلى نفسه ككاتب قط، فهو لم يذهب قط إلى المدرسة ولم ينه المرحلة الابتدائية.
ومن الملاحظ أن مونتيروسو منذ قصصه الأولى التي افتتح بها مسيرته الأدبية كان ينزع إلى جانب السخرية وأخلاقية المصطلح، والنهاية لديه مرسومة قبل معالجة الحدث مقدماً نموذجاً تشكيلياً غنيا في تقديم المجاز أو استعارة في المشهد بكل الصرامة الروحية. وإنجازه يكمن في دفن الشكل الجدلي للحكاية -الذي لم يعد اليوم قابلا للحياة- بشكل نهائي، في حين ظلت لعبة القناع المزدوج في طريقة العرض كما هي. إنه يضع دائماً نصب عينيه مغزى الحكاية، مؤكداً وضوح ما يقال فيها من حيث التناقض، العدوانية، العبثية. وفي موضوع بحثنا ينزع المؤلف في حكاية «الشاة السوداء» إلى الاستعارة والمُثل، لكي تكون نموذجاً أدبياً وظيفياً للعملية الاجتماعية والتغلغل الامبريالي في أميركا اللاتينية.
ومما ورد في الكتاب قمنا باختيار باقة منوعة على سبيل المثال لا الحصر، تبين طرافة أسلوب الكاتب، وسلاسة الجمل، وحسن التصوير مع بساطته، مع الحكمة المبطنة أو الواضحة للقارئ.

الشاة السوداء
كان في بلاد بعيدة منذ سنوات عديدة شاة سوداء.
تمّ إعدامها بالرصاص.
بعد قرن من الزمن أقام القطيع النادم لها تمثالاً وهي تمتطي حصاناً، وكان مناسباً جداً في الحديقة.
وهكذا، كلما ظهرت شاة سوداء في المستقبل يتم إعدامها لكي تستطيع الأجيال القادمة من الأغنام العادية أو البسيطة ممارسة فن النحت كذلك.

مونولوج الخير
«الأشياء ليست بهذه البساطة» فكر الخير ذلك المساء، «مثلما يعتقد بعض الأطفال وأغلبية الكبار».
«الجميع يعلم أنني في بعض المناسبات أختبئ خلف الشر، مثلما يحدث حين تمرض ولا تستطيع أن تستقل الطائرة، والطائرة تسقط ولا ينقذها حتى الرب، وعلى العكس من ذلك يختبئ الشر أحياناً خلفي، مثل ذلك اليوم الذي ترك المنافق هابيل أخاه قابيل يقتله لكي يظلّ هذا سيئ السمعة في عيون الناس ولا يستطيع رد اعتباره أبداً».
الأشياء ليست بهذه البساطة».

الذبابة التي حلمت بأنها نسر
كان في أحد الأيام ذبابة تحلم في كل الليالي بأنها نسر يطير فوق جبال الألب وجبال الأنديز.
في الحقيقة لم تكن تريد التحليق فوق المرتفعات العالية أو في الفضاءات الرحبة ولا في أقل من ذلك كثيراً.
لكن حين تعود إلى نفسها تتأسف من أعماق روحها، بأنها ليست نسراً لكي تحلق عالياً فوق الجبال وشعرت بحزن عميق كونها ذبابة، ولذا تطير كثيراً وهي قلقة وتقوم بكثير من الدوران إلى أن تعود ببطء شديد لتضع صدغيها فوق الوسادة.

الستة الآخرون
تقول التقاليد إنه منذ بضع سنوات كانت تعيش بومة في بلاد بعيدة، كانت تتأمل، تدرس بلا كلل، تفكر، تترجم، تعقد مؤتمرات، تكتب الشعر، القصص، السير الذاتية، الأخبار السينمائية، تلقي محاضرات، مقالات أدبية وبعض الأشياء الأخرى. لقد توصلت عملياً إلى معرفة ومعالجة كل شيء في أي نوع من أنواع المعرفة الإنسانية بجدارة حتى إن المتحمسين المعاصرين لها سرعان ما صرّحوا بأنها واحدة من الحكماء السبعة في البلاد، دون التمكن من التحقق من الستة الآخرون.

شمشون والفلسطينيون
ذات مرة أراد حيوان مجادلة شمشون رفساً. ولا يمكنهم تصور كيف انتهى الأمر. لكنكم رأيتم كيف جرى الأمر مع شمشون ودليلة التي تحالفت مع الفلسطينيين.
إذا أردت الانتصار على شمشون، فاتّحدْ مع الفلسطينيين. إذا أردت الانتصار على دليلة، فاتّحدْ مع الفلسطينيين.
اتّحدْ دائماً مع الفلسطينيين.

في.. الجنة الناقصة
«من المؤكد» قال الرجل بشكل ميكانيكي في ذلك الليل من ليالي الشتاء من دون أن يحيد بصره عن نار المدفأة: «إن في الجنة أصدقاء، موسيقا، وكذلك بعض الكتب، لكن الشيء السيئ في الصعود إلى السماء هو عدم رؤية السماء حينما يكون المرء في السماء».

في.. الحمار والناي
كان هناك ناي مُلقى في الحقل منذ زمن لم يعزف عليه أحد، إلى أن عبَر ذات يوم حمار من هناك ونفخ بقوة فوقه ما جعله يُصدر صوتاً كان الأكثر عذوبة في حياتهما، أي في حياة الحمار وحياة الناي.
لكنهما كانا غير قادرين على إدراك ما حدث، إذ إن العقلانية لم تكن من شيمتهما، وكلاهما كان يؤمن بالعقلانية، افترقا على عجل، خجلين من أفضل ما فعله كل منهما خلال حياتهما المحزنة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن