ثقافة وفن

ديك الجن الحمصي في دراسة علمية لشعره وذاتيته … د. الحلبوني: تناولت المصادر حياته وشعره بغير تماسك وكثير من المبالغات

| سارة سلامة

صدر عن وزارة الثقافة والهيئة السورية للكتاب كتاب سيرة ديك الجن الحمصي واسمه عبد السلام بن رغبان «الذاتية والإبداع»، للدكتور خالد الحلبوني وهو عبارة عن دراسة أدبية نقديّة جادّة أماطت النِّقاب عن حياة هذا الشّاعر العباسيّ المرموق، وتلمسّت مواضع إبداعه الفنّيّ، وألقت الضوء على ذاتيته المتميّزة.
تتألف هذه الدراسة الموسّعة من ثلاثة أبواب، انصرف الأوّلُ منها إلى الحديث عن حياة ديك الجنّ وعصره وديوانه المخطوط والمطبوع، وخصص الباب الثّاني للحديث عن أغراض شعره:
اللهو والخمر والرثاء والفخر والهجاء والوصف والحكمة، وعُقد البابٌ الثّالث لدراسة القضايا الفّنيّة والجمالية في شعر الرّجل، وزاده بياناً الموازنات التي عقدت بين ديك الجن ورصفائه من شعراء عصره أبي نواس وأبي تماّمٍ والبحتري والمتنبيّ.

إن الباحثين والدارسين اهتموا بدراسة الشعراء عبر العصور الأدبية، ومنها العصر العباسي، ولاسيّما في أوج مجده، وذروة تألّقه، بيد أنهم تركوا الشاعر ديك الجن قابعاً في زاوية من زوايا التاريخ، ولعلّ من جملة أعذارهم أن الوصول إلى عالم هذا الشاعر وعرٌ وشائك للغاية، وفيه شيء من التكهن والتفسير الشخصي، الذي يضمُّ بين جوانحه مقداراً من الصواب، وشيئاً من الخطأ، وبالتالي فإن الأحكام النقدية تبقى عرضةً للطعن والجدال العنيف.
وتأتي هذه الصعوبة من قلّة أخبار ديك الجن، فلم تذكر المصادر الأدبية وغيرها ما يغني الدارس، وينقع غليل الباحث، فهي نتف متفرقة، من دون ترتيب أو تماسك، مع بقاء فترات غامضة من حياة الشاعر، فلا بصيص من نور، ولا إضاءة كاشفة، فتقفز إلى الذهن أسئلة كثيرة، لا يجد الدارس لها جواباً، إذ لم ينطق التاريخ ببنت شفة، بينما صمتت المصادر صمتاً عجيباً.
الباب الثاني تناول فيه الحلبوبي حياة ديك الجن فهو ينتمي إلى أسرة كانت تقطن منطقة مؤتة. وكان تميم أوّل جدّ لديك الجن، أنعم الله تعالى عليه بنعمة الإسلام على يدي حبيبٍ بن مسلمة الفهري، وكان قد أخذ محارباً من المستعربة في جيش هرقل.
وبينما تجمع المصادر الأدبية، وكتب التراجم على أن ديك الجن ينتسب إلى مؤتة، فإنّ محمد بن داود بن الجراح ينفرد بروايةٍ مفادها أنه مولى لطيّئ.
وقد نالت أسرة ديك الجن حظّها من الشهرة والظهور، فنبغ منها رجال كانت لهم وظائف مهمّة، وتقلدوا مناصب عديدة والشيء المؤكد أن أسرة الشاعر اتّحذت من منطقة «سّلمية» مستقراً لها، فنبتت جذورها هناك، ودبّ نسغ الحياة في تلك الأرض، لكنها ما لبثت مع مرور الزمن أن نزحت إلى حمص، فألقت عصا التسيار فيها، ثم ولد ديك الجن بمدينة حمص، وترعرع بها.
ويبدو من ثنايا التاريخ أنّ بعض بني هاشم، الذين أصابهم الإخفاق في الوصول إلى الحكم، وتولّي السلطة في عهد الأمويين ثم العباسيين، قطنوا في سلمية، ورأوا في بعدها مجالاً لحركاتهم السياسية، فظلّوا يحاولون بثّ دعايتهم، واستقطاب الناس حولهم، إلى أن تحين ساعة المواجهة.
ومن أغصان أسرة ديك الجن الوارفة الظلال ابن عمِّه أبو الطيب، الذي يقول التاريخ: إنه كان له أثر كبير في حياة الشاعر، وإنه كان متديّناً، ورعاً، تقياً.
ويشاء القدر أن يودِّع ديك الجن ابنه رغبان، حين توخّته المنية وهو صغير، فاتّقدت عاطفة الأب الملتاع، وتفجَّرت مشاعره المرهفة فقال:
بأبي نبذتك بالعراء المُقفرِ
وسترت وجهك بالتُّراب الأعفر
بأبي بذلتك بعد صون للبلى
ورجعت عنك صبرت أو لم أصبر
لو كنت أقدر أن أرى أثر البلى
لتركت وجهك ضاحياً لم يقبر
ويتساءل الأستاذ مظهر الحجي فيقول: «لا ندري بعد ذلك عن عقبه شيئاً، وكأنما يبست شجرة ديك الجن، وتوقفت الحياة في نسغها».
وعن نشأة ديك الجن وطفولته: ضنّ التاريخ بأخبار طفولة ديك الجن، إذ ضاعت ملامحها ومعالمها فيما ضاع من تراثنا، وحياة شعرائنا وكتابنا ومخترعينا، وكأنه مقدر على النابغة
أن يحيا في المجتمع كأيّ إنسان آخر، لا يلتفت إليه، ولا يهتمّ أحدٌ بملاحظاته، إلا إن كان أبوه من ذوي اليسار، أو كان ولد والٍ أو خليفة.
فهو متميز منذ صغره بغير شك، فهو ليس إنساناً عادياً، ثم إنّ قول الشعر لا يأتي على حين غرّة، بل له محاولات وممارسات وتجارب، بينما الأهل إما أن يبتسموا لبيت شعر قاله أحدُ أبنائهم، وإما أن يطلقوا سخريات مريرة، وذلك كله يرجع إلى الوالدين، واهتمامهما، ومؤهلاتهما الثقافية، ونضجها العقلي والاجتماعي.
إن طفولة ديك الجن أصابها الإهمال الشديد، وتعرّضت للتجاهل المقيت، والأمل معقودٌ على كتب التراث التي تنشر تباعاً أن تخرج بجديد، أو تحل ألغاز تلك المرحلة المجهولة، التي لا يُعرف عنها شيء.
وعاش ديك الجن سنوات طفولته في عهد الخلفاء: المهدي والهادي وهارون الرشيد، وقد مضى ثماني سنوات في عهد المهدي، وسنة واحدة في عهد الهادي، وإذا افترضنا أن البلوغ يكون في الرابعة عشرة من العمر، فإن ديك الجن قد قضى خمس سنوات من طفولته في عهد هارون الرشيد أي في العصر الذهبي للدولة العباسية، ومما يغلب على الظن أنه تعلم في الكُتَّاب، وكان ملحقاً بالمسجد، إن لم يكن الكُتّاب هو المسجد ذاته، ووردت أحاديث كثيرة حول سبب تسميته ديك الجن منها ما قال الثعالبي:
«ديك الجن: يضرب مثلاً للديك النجيب، الحاذق، الكثير السّفاد، ومنه سمّي ديك الجن الشاعر المشهور».
ويقول الحلبوني إنَّ هذا التفسير مستوحى من حياة ديك الجن الذي كان يلاحق الغواني، ويصرّح باستعداده للتخلّي عن أي شيء مقابل رضا المرأة التي يراها جميلة، وتذوب نفسه تحرقاً ليظفر بها، يقول في إحدى مغامراته:
لما نظرت إلي عن حدق المها وبسمت عن متفتّح النوار
وعقدت بين قضيب بان ٍأهيفٍ وكثيب رملٍ عقدة الزنار
عفّرت خدّي في الثرى لك طائعاً وعزمت فيك على دخول النار
وهناك أبيات يذكر فيها شوقه إلى الشام، إثر مغادرته لها، يقول:
أما لي على الشّوق اللّجوج معين
إذا نزحت دارٌ وخف قطين
إذا ذكروا عهد الشآم استعادني
إلى من بأكناف الشآم حنين
تطاول هذا الليل حتى كأنما
على نجمة ألا يعود يمين
فو الله ما فارقتها عن قلى لها
ولكن ما يقضى فسوف يكون
أما موقفه وما قال في الخيانة والغدر فكان عندما عاد من سفره بسرعة، شاهراً سيفه ليثأر من الخائنة زوجه، كالملسوع انقض عليها، وانهال عليها ضرباً بسيفه حتى أرداها مضرّجة بدمائها، وبينما كان سيفه يقطر دماً قال:
وآنسة عذب الثنايا وجدتها
عن خطّة فيها لذي اللّبِّ متلف
فأصلتُّ حدّ السيّف في حرِّ وجهها
وقلبي عليها من جوى الوجد يرجف
فخرّت كما خرّت مهاةٌ أصابها
أخو قنص مستعجل متعسف
سيقتلني حزناً عليها تأسفي
وهيهات ما يجدي عليَّ التأسف
والسؤال المطروح: هل كان ديك الجن على وعي تام وهو يقتل زوجه الحبيبة؟ وهل كان في وضع نفسي يستطيع من خلاله السيطرة على أعصابه؟
وعاش الشاعر بقية عمره نادماً على ما جنت يداه، فنطق يرثي زوجه الحبيبة بالدمع الهتون، والكلمة الحزينة، مع إظهار الندم، وكأنه أحسَّ ببراءة زوجه المقتولة، واستشعر ذنبه الكبير، فهو يقول:
أساكن حفرة وقرار لحد
مفارق خلة من بعد عهد
أجبني إن قدرت على جوابي
بحق الودّ كيف ظللت بعدي
وأين حللت بعد حلول قلبي
وأحشائي وأضلاعي وكبدي
أما والله لو عاينت وجدي
إذا استعبرت في الظلماء وحدي
وجدَّ تنفُّسي وعلا زفيري
وفاضت عبرتي في صحن خدّي
إذاً لعلمت أني عن قريب
ستحفر حفرتي ويشق لحدي
سلاسة الأسلوب، وعذوبة الموسيقا تبدو عند ديك الجن واضحة للعيان، وكأن شعره قطعة من الشعر المرقّص، وذلك في قوله متغزلاً:
ياكثير الدّل والغنج
لك سلطان على المهج
إنّ بيتاً أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الّناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجاً
يوم أدعو منك بالفرج
أما الهجاء ليس من طبيعة ديك الجن، إذ فطر هذا الشاعر على الحديث عن وجدانه الحيّ، ومشاعره الذاتية، ف «الأنا» عنده متميزة، وموظفة لتحقيق نرجسيته، إثر سقوطه في فخ الإحباط وشعوره بالاضطهاد، وهو ما جعله يفضي إلى حالة خاصة عاشها مدى عمره، وبيّن ديك الجن بعض أسباب هجائه لابن عمه أبي الطيب، فقد كان يفسد عليه مجالس لهوه وطربه، ويعكّر عيشه الصافي، فما أشبهه بملك الموت. يقول:
كم طربات أفسدتهن وكم
صفوة عيش غادرتها كدرة
وكم إذا ما رأوك يا ملك ال
موت لهم من أنامل خصره
وكم لهم دعوةٌ عليك وكم
قذفة أم شنعاء مشتهرة
كريمة لؤمك استخف بها
ونالها بالمثالب الأشرة
أما الوصف عند ديك الجن فكان واضحاً في ثنايا قصائده، وبرز ذاك الوصف مندغماً بمكوناته النفسية والسلوكية، متأثراً بنزعته الإبداعية، ومعاناته التي عاشها يوماً بعد يوم، فكان الوصف أنيسه، وتجسيد الواقع صوراً شعرية هدفه، بينما كانت السمة الغالبة لذاك الوصف هي النزعة المادية للشيء الموصوف، ونرى في وصفه للطيور والصقور والبزاة وهي تستعد متحفزة للانطلاق من يد مالكها، لتنقض على الوحوش المضطربة يقول ديك الجن:
بطاوية الأجادل أو بزاة
محمجة لداهية شموس
تراها في براها منغصات
بأرؤسها بحسّ أو حسيس
فأمُّ الطّير في شرّ وعرّ
وأمّ الوحش في يوم عبوس
وفي الموازنة بين ديك الجن وأبي نواس يرى الحلبوني أن لكل شاعر رسالة أدبية حيوية، يحرص على أدائها كاملة، ويسخّر لها كل طاقاته، وإمكانياته، لتتحقق على أتم وجه من غير إمهال يؤخرها، أو إهمال يطرحها، فهو يودّ الإعلان عن مواهبه، وقدراته الشعرية، والتعبير عن دخائله النفسية، معلناً عن خصائصه المحتجبة، فيدركها الدارسون، ويطّلع عليها الباحثون. ولو حاولت الإتيان ببعض شعر أبي نواس وديك الجن في موضوع الخمرة- ذي الأبعاد الاجتماعية والسياسية- لكان التشابه قائماً، والمعاني مترادفة، والرسالة الشعرية تتهادى على متن التطابق والانسجام.
فقد دعا ديك الجن إلى احتساء الخمرة، وشربها ليلاً ونهاراً، فهي وسيلة للتخلص من الأدواء، ويقول:
بها غير معذول فداو خمارها
وصل بعشيّات الغبوق ابتكارها
وأخذ أبو نواس هذا المعنى، وزاد عليه، فقال:
دع عنك لومي فإن اللّوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
ورأى أو نواس في الخمرة تبديداً لهمومه، ومزيلاً لأحزانه، فيقول:
لا تحسبن عقار خابية
والهمّ يجتمعان في صدر
فالخمرة عند الشاعرين صحّة وجمال وطمأنينة، ووسيلة للكشف والانطلاق والتحليق، ودواء ناجع من السقام المنتشر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن