اقتصاد

لا بديل عن طرطوس

| علي هاشم

بالمعنى الاقتصادي، تكاد الحرب على سورية تلقي حمولتها الصلبة بعدما وصل الاستثمار الإرهابي للهيمنة على جغرافيتها مفترقاً مصيرياً، فالاتفاقيات السورية مع العراق، ومن ثم إيران، ورغم الصبغة المستعجلة التي تشوبها، إنما تلخص إلى حد بعيد، ما تم إشعال الحرب لمنع حدوثه.
في الاتفاقيات التي أبرمت مع إيران، ثمة ما يقول ذلك بوضوح.. فمع ما حكي عن اتفاق لاستثمار ميناء بحري تتضح معالمه خلال أيام، ومساحة وازنة من الأرض شرق حمص لبناء مستودعات يسهل توقعها كميناء جاف، وإلى جانب عقدة الربط الضوئي بين البلدان الثلاثة، وسكة الحديد مستقبلاً، يجد المرء نفسه مجدداً أمام فضاء «البحار الخمسة» الذي فضل الغرب وبعض عملائه دفن أهميته في البادية السورية على أن يراه حقيقة في أيدي السوريين والعراقيين والإيرانيين.
لا يمكن الجزم ما إذا كانت الاتفاقيات السورية العراقية الإيرانية جاءت كرد فعل على تسابق الغرب وعملائه لاستلحاق ما أمكنهم من تحييد للجغرافية التجارية السورية، أم العكس، لكن الثابت هو أن هذه الجغرافية بموانئها البحرية تواجه ما يشبه منافسات جري تتابعي مع أخرى بديلة يتم الشغل عليها شرق الأردن، وما «داعش» التي تستميت هذه الأيام لرسم حدود جديدة تمنع تدفق طرق التجارة من غرب سورية إلى شرقها، سوى حلقة فاضحة تتكامل مع تراكض شركتين أمنيتين أميركيتين كبيرتين (بلاك ووتر) تكفلتا بضمان أمن تجارة الترانزيت عبر معبر (طريبيل) العراقي الأردني بهدف تأمين طرق التجارة من ميناء حيفا الإسرائيلي على المتوسط مرورا بصحراء الأردن فالعراق الذي يطل على أسواق الخليج وشرق آسيا.
ميناء حيفا ليس تفصيلاً هاهنا، إذ غني عن القول: إن الأردن هو أكثر العارفين بأن العقبة لا يتمتع بأدنى حيوية تجارية، وخاصة بعدما دق قرار القضاء المصري بملكية جزر تيران وصنافير، المسمار الأخير في نعش الأحلام الغربية باعتماد (خليج العقبة) كبديل الضرورة للجغرافية السورية وقناة السويس.
على هذا المنوال، تتضح أسباب المسارعة العراقية للمطالبة بفتح معبر التنف تهرباً من الضغط لتوريط تجارتها مع «إسرائيل»، كما يفسر وعد رئيس مجلس وزرائنا القاطع بتحقيق ذلك، ويفسر أيضاً مسارعته إلى إيران والاستعجال بعقد الاتفاقيات الأخيرة، رغم عدم تناسبيته الواقعية مع التمدد الداعشي المستجد على المسارات المتوقعة لطرق التجارة، ومحاولته انتزاع دير الزور كرصيف شمالي لطريق التجارة ونشر الفوضى في تدمر التي تعد استراحته الضرورية.
في هذا السياق، يمكن فهم المحاولات المحمومة بقيادة بريطانية لتحويل الجغرافية السورية إلى حديقة اقتصادية خلفية، وهذا الأمر له جذوره القديمة نسبيا، فلا زالت الذاكرة تحتفظ بصورة أحد مسؤولينا الاقتصاديين السابقين واستماتته لتدشين ربط شبكات اتصالاتنا من المحطة القارية في جدة وتدشين سكة للحديد من ميناء العقبة، في غمرة توقيع الاتفاق الإستراتيجي مع تركيا 2010 لإطلاق فضاء البحار الخمسة، وهو ما يعكس راهنا المحاولات اللاحقة لقطع الجغرافية السورية عبر العصابات الإرهابية جنوب سورية تحت شعار «لا بحار خمسة بأي ثمن».
وها هنا يمكن فهم التصريحات الأردنية حول استحالة فتح المعابر المشتركة من دون سيطرة الجيش السوري عليها، فرغم الإيحاء الكاذب بأنها تقدير الجار للجار، فهي تستبطن القول: إن تلك المعابر لا تزال بحاجة إلى وقت طويل تبعا للمعوقات الجدية المدروسة التي تشكلها تلك التنظيمات، وهو ما كشفه ملك الأردن في جلسة أمام الكونغرس الأميركي مقرّا بقيام الجيش البريطاني بتشكيل (لواء ميكانيكي) جنوب سورية، وما يعنيه الأمر من سدود محلية سيتم استثمارها حتى آخر رمق لقطع سورية عن فضائها الحيوي، ما دامت الحرب فشلت بتكريس الهيمنة عليها.
مجدداً، ليس من الواضح إذا ما كانت الاتفاقات السورية الأخيرة فعلاً، أم رد فعل على ما يجري ترتيبه في المنطقة، لكن الثابت أنها تأكيد عملاني على أن ميناء حيفا لن يكون بديلا من طرطوس أو اللاذقية، وأن «جسر الزاوية»- الاسم الجديد الذي بات يتداوله الغرب لوصف الجغرافية السورية لن يفقد أهميته لمصلحة أخرى، وأن إدخال المصالح السورية العراقية الإيرانية مرحلة جديدة من العمق القانوني، ليس سوى تمهيد للدفاع عنها بكل الوسائل الممكنة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن