قضايا وآراء

ظاهرة ترامب وصراع التيارات في النظام الأميركي

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي 

خلافا للصورة الساذجة التي يحاول مثقفو إعلام النفط والغاز الخليجي هذه الأيام ترسيخها في الأذهان فيما يتعلق بالحدث الذي مثله وصول شخصية إشكالية مثل دونالد ترامب لمقعد الرئاسة في أميركا، باعتباره انبعاثا لقوى الفاشية والشعبوية التي سبق أن هزمها تحالف (الديمقراطيات الليبرالية) في الحرب العالمية الثانية، يعبر وصول ترامب بالفعل عن تغيير تاريخي حقيقي في البلد المركز الذي يقود النظام الإمبريالي الغربي منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن ذلك التغيير لا يتعلق بالتأكيد بصراع بين قوى ليبرالية خيرة تدعم الديمقراطية في العالم لأجل عيون الشعوب وبين قوى نازية شريرة مستعدة للتعاون مع الديكتاتوريات، كما أن ما جرى أعقد أيضاً من أن يكون صراعا بين جمهوريين وديمقراطيين (تخلى الحزب الجمهوري بأكمله عن ترامب خلال الانتخابات بما في ذلك جورج بوش الابن نفسه)، لكن هذا التغيير يعبر في الواقع عن حالة العجز التاريخي عن ممارسة التوسع الاستعماري في منطقتنا، التي وصلت إليها الولايات المتحدة الأميركية أخيراً بفضل المقاومة التي واجهتها من أنظمة وقوى شعبية اختارت الطريق الصعب، طريق عدم الخضوع للمشيئة الأميركية.
لقد أقدمت الولايات المتحدة الأميركية خلال الولايات الرئاسية الأربع الماضية، والتي تقاسمها مناصفة الجمهوريون والديمقراطيون، على نوعين من الحروب استدعى كل منها لتغطيته خطابا عن القيم الديمقراطية وعن الحريات وإنقاذ الشعوب من حكامها الديكتاتوريين القتلة، وهو ما استخدم لتمويه حروب جورج بوش الابن المباشرة لغزو العراق وأفغانستان، وأعيد استخدامه بلا زيادة أو نقصان لتغطية حروب الديمقراطيين غير المباشرة في عهد أوباما وهيلاري كلينتون، تلك الحروب التي أديرت عبر لعبة الإعلام والمخابرات وبالتحالف مع قوى الإرهاب المتأسلمة تحت اسم الربيع العربي، لكن النوعين من الحروب اللذين كان من المفترض لهما أن يحققا للدولة الإمبريالية عوائد اقتصادية ضخمة، كنتيجة للسيطرة على منابع الطاقة وممرات نقلها، لم يحققا في الواقع الانتعاش المنشود إلا لقطاعات اقتصادية محددة في الولايات المتحدة، وهي شركات تصنيع السلاح التي تجني أرباحها من بيع السلاح للجيش الأميركي بأثمان خيالية تؤخذ من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، في حين أصيب الاقتصاد الأميركي إجمالاً بسبب تلك الحروب بانتكاسات ضخمة، مما استدعى بالنتيجة صراع مراكز قوى كالذي نشهده اليوم في الولايات المتحدة الأميركية ويتبدى أثره في السياسة الخارجية وفي وسائل الإعلام.
فالولايات المتحدة الأميركية تدار من خلال نظام حكم معقد متعدد الرؤوس، يمثل كل منها مصالح قوى اقتصادية معينة في المجتمع الأميركي، وفيما يسيطر اللوبي الممثل لمصالح شركات التصنيع العسكري أو ما يسمى بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي على وسائل الإعلام الأميركية، التي تتبنى خطابا متشددا عن رسالة الولايات المتحدة الأميركية الحضارية، والمتمثلة في دعم القيم الديمقراطية وفي ممارسة دور شرطي العالم عبر معاقبة الحكام الديكتاتوريين الذين ( يتجاوزون الخطوط الحمراء الأميركية بحق شعوبهم)، ترى القوى التي مولت حملة ترامب الانتخابية من ناحيتها أن لا مصلحة حقيقية للولايات المتحدة بعد الآن في الحديث عن تغيير الأنظمة وعن نشر القيم الأميركية في العالم، ولا مصلحة لها في خوض حرب باردة جديدة مع روسيا، فيما تستمر الصين في توسعها الاقتصادي الصناعي مستغلة انشغال الولايات المتحدة في وحول الشرق الأوسط، لذلك تبنت الحملة الانتخابية لترامب خطابا يناسب قطاعات شعبية عريضة من المجتمع الأميركي، هي التي تضررت اقتصادياً من المغامرات الخارجية للنخبة الحاكمة، خطابا يتحدث عن ضرورة حماية الصناعات المدنية الأميركية من المنافسة الأجبنية، وعن ضرورة العمل على فرض رسوم جمركية على البضائع المستوردة من الخارج تمنع المستثمرين من نقل مصانعهم إلى شرق آسيا، وذلك كله بعيداً عن قناع الخطاب الليبرالي الديمقراطي المنمق الذي لطالما استخدمه الإعلام الأميركي لتمويه التدخلات الأميركية الخارجية، تلك المغامرات التي لم تؤد حسب ترامب إلا إلى خسائر للاقتصاد الأميركي وإلى انتشار الإرهاب في العالم.
لقد بدأ الصراع الداخلي بين مراكز القوى في النظام الأميركي الحاكم منذ أواخر عهد جورج بوش الابن حينما ظهرت النتائج الاقتصادية الكارثية لغزو العراق، حيث تم التوقيع على وثيقة بيكر – هاملتون التي تدعو لتبني إستراتيجية تحقق مصالح الولايات المتحدة بالتفاهم مع الدول الإقليمية في العالم ( روسيا – إيران – سورية) وليس عبر محاولة كسرها وإخضاعها، وهو ذات ما يتبناه ترامب اليوم ويبرره بضرورة التفرغ للمواجهة الاقتصادية مع العملاق الاقتصادي النامي الصين، وظهر صراع مراكز القوى ذاك للعيان مرة أخرى عندما وقعت الولايات المتحدة منذ أشهر على تفاهم سياسي بشأن محاربة الإرهاب في سورية مع الجانب الروسي ثم تراجعت عن تنفيذ بنوده.
وفي حين يعتبر الإعلام الأميركي اليوم ظاهرة ترامب انتكاسا للقيم الليبرالية الأميركية، ويتبنى نظرية المؤامرة الروسية حول وصوله للبيت الأبيض، وفيما يتحدث مثقفو النفط والغاز العرب عن فاشية ترامب واستعداده للتعاون مع الديكتاتوريات حول العالم، يتناسى كل أولئك أن من أوصل ترامب للحكم هي الديمقراطية ذاتها التي دعموا تحت شعاراتها تدمير دولنا الوطنية واستباحة منطقتنا أمام التدخلات الخارجية، فإذا كانت تلك الوصفة السحرية لا تعمل كما يجب في البلد الأم فكيف لها أن تعمل في بلادنا، وكيف لها أن تكون ثمنا لائقا مقابل التخلي عن القيم الوطنية، وعن مقاومة مخططات أعدائنا التاريخيين ووكلائهم في منطقتنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن