ثقافة وفن

الماضوية واقع وأخطار (2)

إسماعيل مروة : 

 

القارئ المتابع في الدراسات والشروح والتفاسير يلحظ ذلك الشغف غير المحدود بالماضي والدراسات الماضوية، فالكتاب المقدس وشروحه يخضعان لشروح الكتاب المقدس التي وصلتنا من السابقين، وننتظر اللقاءات الدينية الكبرى، وشروح القرآن الكريم وتفاسيره نتداولها كما جاءت عن الطبري والقرطبي وسواهما، بل يتم تصنيف هذه التفاسير حسب توجهات أصحابها الفكرية بين العقل والنقل، وبين المعتزلة والمتصوفة والظاهرية وسوى ذلك من مصطلحات كان لها أصحابها الذين أفادوا منها حتى الغاية.. ومجرد مراجعة بسيطة للدراسات الحديثة في اللاهوت المسيحي، والشريعة الإسلامية يظهر ذلك التعلق بما جاء به الأقدمون من رؤى وتفاسير، وكأنه ليس من حق أي إنسان أن يأتي برأي أو بقراءة من دون الخروج عن مسلمات النص المقدس!
فما قاله أحدهم قديساً أو شيخاً، مطوباً أو غير مطوب غير قابل للمناقشة، فقد جاء عن فلان وفلان، وكأن هذا الفلان كان خلواً من أي غاية فكرية وسياسية وشخصية، ووصلت مرحلة الأخذ عن الأقدمين مرحلة التقديس الذي يوقف العقل، ويمنع الإنسان من أداء أي دور سوى ترداد ما جاء عن العالم الفلاني أو الفلاني، وينسى الجميع أن القراءة علم، وأن للقراءة أدواتها، وهذه الأدوات تتغير بتغير الأزمنة، وذلك من دون أن يؤثر في النص المقدس الأساسي، فما كان متوافراً لدى مجمع مسكوني قبل قرون غير متوافر عند علماء الكهنوت اليوم، وما كان متوافراً من علم ومعرفة عند القرطبي يختلف عما هو موجود اليوم، وأظن أن علماء الماضي ليست لديهم المعرفة بالعالم المحيط بهم كما هي اليوم، ومع ذلك نجد بين الناس من يرفض كل رأي يأتي به أحدهم لمصلحة الآراء القديمة! بل الأمر يتخطى ذلك ليصل إلى الباحثين أنفسهم الذين يفضلون الدوران في فلك الأقدمين ويفضلون إعادة قراءاتهم وتكرارها على أن يقدموا رأياً جديداً فيصبحوا على حد زعمهم ضحايا المخالفة، فهل وصلنا رأي واحد من أولئك لو لم يخالف ويختلف ويقدم رأياً جديداً.
إن الحفاظ على قراءة الأقدمين لا تعني الحفاظ على المقدس من النص، ولكنها قراءة تلغي دور المقدس في إغناء حياة الأتباع، وتحول المقدس إلى سلطة في أيدي فئة من الناس يمنعون أي اجتهاد أو قراءة!
ولا يخفى على أحد أن التواطؤ بين السلطتين السياسية والدينية عبر تاريخنا العربي، وكذلك في التاريخ العالمي أوجد تحالفاً خفياً أحياناً، وظاهراً في كثير من الأحيان لقيادة العامة وسياستها، وذلك من خلال خنق أي ظاهرة من ظواهر الاجتهاد في الرأي، والتوقف في القراءة عند مرحلة معينة، وزادوا بأنه ليس ثقة، ولا يؤخذ من علمه ذلك الذي لا يتوافق مع مرحلة ما قبل الاجتهاد!
إن الاجتهاد في القراءة والتفسير يخدم المقدس، ويجعله قادراً على المعايشة وخدمة الأتباع، ويدفعهم إلى خدمة النص، ويحدث ثورات فكرية عظيمة تعمل على نهضة المجتمع، وعلى إنهاضه إن أصابه نوع من الخمول أو الكسل أو التراخي! لذا كان من مصلحة التواطؤ المشار إليه أن يلغي أي رأي مخالف أو اجتهاد، وإلا فكيف يمكن للمؤسسة أن تبقى في إطار التقديس؟ تأخذ من المال ولا أحد يناقش! تقرر نيابة عن الناس ولا من يقاوم! تأخذ الأنفاس ونشكر لها فعلها! تضع الغطاء على العقل، ونظن أننا في قمة الوصول!
إن ما نحن فيه، وما نعانيه، وما يعرض لنا بين مدة وأخرى من حرب البسوس إلى الربيع الذي ننعم بأنسامه ليس إلا مشكلة فكرية تتعلق بالماضوية والتفكير المحجوب عن الحاضر، وعن استشراف المستقبل وأزعم أن تغيير آليات التفكير، واحترام عقل الناس، وفتح باب الاجتهادات على مصاريعها يمكن أن يغير من قوانين النقاش والديمقراطية، ومن بنية العقل العربي، بل أزعم أنه يجبر أرباب المؤسسة الدينية مسيحية وإسلامية على تغيير قواعد اللعبة، وفي العمل والاجتهاد على التطوير، بل خدمة الأتباع كما هو الدور الحقيقي، وكذلك سيجبر المؤسسة السياسية على اختيار قواعد جديدة للتعامل مع المواطن، ويعود إليه حق المواطنة الذي خسره عندما نزل تحت عباءة المؤسسة الدينية الفضفاضة، والتي تمنع أي ضوء من الانسراب لقراءة شيء جديد، أو لرؤية المرآة الكاشفة للعيوب والإيجابيات.
قرؤوا لزمانهم، فلنقرأ لزماننا، ولنحترم أنفسنا وما نملك من مقومات تجعلنا أكثر قدرة على فهم ما يلزمنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن