قضايا وآراء

بين «العلمانيّة السورية» و«سورية العلمانيّة»

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

إن القراءة الموضوعية لما نتج عن محادثات «الأستانا»، تقودنا للقول إن أهم ما ميز نتائجها هو ذاك السجال في الشارع السوري وعلى مواقع التواصل الاجتماعي حول شكل سورية القادم، أي «سورية العلمانية». القصة ليست بمن رفض ومن أيّد ورود العبارة في البيان، هذا الأمر يبدو شكلياً، الأهم أن الحديث على المستوى الشعبي عن «العلمانية» بدا انعكاساً للحالة التي يعيشها المواطن السوري الذي بات يرى بأي مصطلح أو شكل للعقد الاجتماعي القادم هو الأساس الذي سيحمي سورية مستقبلاً. بدا واضحاً أن معظم السوريين يريدون بهذا العقد الحد الأعلى القادر على حماية الدولة والمجتمع، تحديداً أن المواطن السوري يعاني من غياب واضح لدور أصحاب الفكر في حياته العامة، وهذا معروف الأسباب، إما لأنه تم إقصاؤهم عمداً والاستعاضة عنهم بـ«دمى»، أو لأن المشكلة تكمن في أصحاب الفكر الذين يريدون البقاء في بروجهم العاجية ومخاطبة المواطن البسيط بلغة أكاديمية فوقية ربما هو نفسه لا يدرك معظم مصطلحاتها.
لكن في الوقت ذاته؛ لنعترف أن الغوص في هذا المصطلح ومالهُ وما عليه، ليس بحاجة فقط لمساحة واسعة من الجرأة والتحرر من أي تبعيات مسبقة، هو أشبه بالسير في حقل ألغام لا تعرف متى تنفجر بك كلمة ما، تحديداً أن نسبة الجهل بهذا المصطلح تصل إلى نسبة كبيرة، إذ كيف ستقنع البعض أن «العلمانية» ليست كفراً كما يصف هؤلاء من ينادون بها، وأن ممارسة الشعائر الدينية ليست نقيضاً لـ«النظام العلماني». لكن في الوقت ذاته كيف ستقنع الكثير من مدّعيّ اليسار أنهم يمارسون السّادية ذاتها التي يمارسها «المتأسلمون» عندما يريدون إلغاء الآخر وذلك بإصرارهم على أن أي مظهر ديني في الدولة هو دليل تراجع وتخلف، كيف لي أن أُقنعهم مثلاً أنني كمواطن سوري بسيط أرى في خطابات «المفتي حسون» فكراً علمانياً وانفتاحاً على الآخر يفوق بمسافات طويلة ما يدعون أنهم يحملونهُ من فكر علماني، وبمعنى آخر:
«العلمانية» كما «الطائفية» في النفوس، قبل أن تكون في النصوص، فهل أن سورية الحالية هي دولة «علمانية»؟
نعرف أن الدولة بالمطلق ترتكز على ثلاثة ثوابت، الأرض، الشعب والنظام السياسي القائم. بما يخص الشعب السوري، فهو بمعظمه «علماني بالفطرة»، القضية ليست قضية تحيز للشعب الذي أنتمي إليه، المجتمع السوري أذهل العدو قبل الصديق من خلال احترام الأديان والمعتقدات والأمثلة يعرفها الجميع ولا داعي للإسهاب بها. لكن هناك من يحاول بسوداوية قميئة نفي هذه الفكرة، فتارةً يتساءل، كيف أننا «علمانيون» ومعظمنا يهتم برفع الرموز الدينية ويعتز بانتمائه الديني، وتارةً ثانية يفكر كيف نكون «علمانيين» وقد خرج من مجتمعنا كل هذا التطرف والإرهاب؟!
التساؤلان منطقيان، لكن من قال أساساً إن «العلمانية» تمنعني من إظهار رمز ديني أعتز به، هذه المغالطة للأسف يقع فيها من يقوم بالخلط بين «اللادينية» و«العلمانية» التي تحرك فينا دافع احترام الرموز الدينية للآخرين قبل احترام رموزنا الدينية، هم بهذه الطريقة يسيئون لفكرة «العلمانية» من حيث لا يدرون، حتى في فرنسا عندما صدر قانون منع المظاهر الدينية كان مجرد التفاف على «العلمانية» للوصول نحو «منع النقاب» لدواع أمنية لا أكثر.
أما الحديث عن الإرهاب الذي خرج من رحم المجتمع فالقصة بسيطة والجواب عليه يعتمد أسلوباً في التحليل طرحته يوماً بالقول إنك عندما تريد معرفه قيمة الشيء، اجعله منفياً، وعليه نتساءل:
لا تقل لي كيف نكون «علمانيين بالفطرة» ويخرج منا كل هذا التطرف، بل قل لو لم نكن «علمانيين بالفطرة» ما الذي كان يريده لنا أعداؤنا أن نفعله. ببساطة «الجميع يقتل الجميع»… فماذا عن النظام السياسي؟!
بواقعية مطلقة، إن «النظام السياسي» في سورية استفاد ومنذ دستور 1973 من «علمانية» الشعب السوري الموجودة أساساً، وليس هو من أوجدها، لكن ما يؤخذ عليه أنه لم يسع فعلياً لتطوير هذه «العلمانية» بما يتوافق مع تطور الحياة السياسية. عندما جرت انتخابات مجلس الشعب تحدثت في مقال (انتخابات مجلس الشعب ما لها وما عليها) وقلت إن «الجبهة الوطنية التقدمية» هي من أرقى الأفكار السياسية لنظام حكم جماعي مناسب لمجتمع متعدد كسورية، لكنها كانت ضحية لعدم التطوير. «العلمانية» كمفهوم قام عليه النظام السياسي وإن كان هذا الأمر ضمنياً وليس صراحةً هي الضحية الثانية، لم نطورها ولم نستفد منها، بل على العكس هناك من استمد من الاقتصاد أسلوب «البطالة المقنعة» في القطاع العام ليسحبه نحو «بطالة مقنعة» في التعاطي مع انتهازيي «الإسلام السياسي»، وهؤلاء حكماً لا علاقة لهم بالإسلام كـ«دين»، وبدل منعهم من التغلغل في جسد «العلمانية» فرضناهم حتى على «المجتمع العلماني»، (هل يستطيع أحد أن يشرح لنا كيف لدولة نظامها علماني تأتي بالعريفي ليحاضر بطلاب جامعتها!). إذاً نحن «علمانيون بالفطرة»، لكن النظام السياسي إلى حدّ ما لم ينجح في تأطير هذه «العلمانية»، فهل نحن بحاجة لتطوير نظامنا السياسي ليتبنى صراحةً «العلمانية السورية» وصولاً لـ«سورية العلمانية»؟
أن يكون هناك نظام سياسي قائم على دستور يتبنى صراحةً «العلمانية» كما هو حال الدستور الفرنسي لعام 1958، فهذا أمر يتمناه كل السوريين الراغبين برؤية بلدهم محصنة من أي نفوذ متطرف، لكن من قال إن الدساتير هي التي تحصّن؟ ألم يدمر نظام «العدالة والتنمية» علمانية «أتاتورك» التي لا تقل سوءاً عن فاشية «أردوغان».
إن تبني الدستور بشكل واضح وصريح لعلمانية الدولة هو أمر كما له إيجابيات معروفة، فلديه سلبيات قد لا تكون واضحة للجميع. مثلاً في سورية المستقبل التي قد ينص دستورها صراحةً على علمانيتها لا يوجد «جهات دينية» تتمتع بمزايا ما، وبمعنى آخر لا يوجد جامع أو كنيسة لا يدفعان مثلاً فواتير الكهرباء والماء، فالدولة لا علاقة لها بأي تمويل على أساس ديني، والشؤون الدينية تكون مسيرة من هيئات مستقلة؛ فهل نحن جاهزون لهكذا تحول فجائي بعد فشلنا بتحقيقه تباعاً على مدى عقود؟! الأمر الآخر عندما يعلن الدستور «علمانية الدولة» صراحةً فإن أي قانون قادم يكون محمياً بقوة الدستور، باعتبار أن الدستور هرمياً هو الأعلى، فماذا لو طالب أحدهم بعد فترة بتشريع زواج «المثليين» مثلاً أو إقرار «الزواج المدني»، كيف سنتعامل مع أمور كهذه ونحن أساساً ليس لدينا قوانين تحمي المرأة المضطهدة، بل نقيدها بـ«جرائم الشرف»، فكيف سنحميها إذا أنجبت من علاقة ناتجة عن زواج مدني!!؟ لا نطرح هذه التساؤلات من باب تبنى هذه الوجهة أو تلك، لكن المنطق في المعارك المفصلية أن نكون واقعيين ونرى السلبيات كما الإيجابيات، فهل نحن جاهزون لكل هذه التحولات التي يفرضها وجود دستور ينص على «علمانية الدولة». بواقعية مطلقة لا نعتقد ذلك، إذاً ما الحل؟
الحل بسيط؛ الوصفات الجاهزة في «العلمانية» كما الوصفات الجاهزة في الديمقراطية، كلاهما أشبه بمن يريد صعود السلم بأسرع وقت فيقع. الحل هو باشتراع علمانية سورية خاصة تنتج عن حوار «سوري- سوري» لا تُقصي أحداً ولا تستثني أحداً لنصل إلى خلاصة مشروعنا المستقبلي ونضعه في وجه من يظننا أننا سنقبل بالوصفات الجاهزة أولاً، أو من يريد أن يعيدنا قروناً إلى الوراء عبر «هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، تحديدا أن المؤسسة التشريعية في سورية أثبتت عقمها في مواكبة ما يريده المجتمع، بل نكاد نجزم أن في سورية هناك مفارقة تتحقق لا أعتقد أنها تحققت في دولة ما، بأن تكون السلطات التنفيذية أقرب للمواطن من السلطات التشريعية. «العلمانية السورية» يجب قوننتها وصولاً لـ«سورية العلمانية»، التاريخ ربما يعاقبنا لأننا لم نستثمر الفرصة في الماضي، اليوم نحن أمام فرصة قد لا تتكرر. إن حماية المستقبل أهم بكثير من إرضاء الأفراد أو الأحزاب، هذه القاعدة هي ما يجب أن نبني عليه علمانيتنا القادمة وعلى الجميع أن يضع إمكانياته في سبيل تحقيق ذلك وصولاً لدستور سوري عصري لا يحاكي المستقبل من وجهة نظر النصوص الجاهزة التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، بل يحاكيها أولاً بإعلاء قيمة «المواطنة» فوق كل اعتبار، وأخيراً من خلال عبارة «الدين للـه والوطن للجميع» وما بينهما الكثير من التفاصيل التي تحتاج للإرادة الحقيقية للتغيير، فهل نمتلكها؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن