ثقافة وفن

العشق صخر يعلو صخرة المنشار.. صخرة تحيي القادم إلى دمشق وتؤرخ للربوة وبنائها

| شمس الدين العجلاني

كل قادم إليك يلقى الحب والحنان..
كل قادم إليك ينام من تعب الأيام على صدرك الحنون
كل قادم إليك يجد المأوى والطعام والأمان
أنت أيتها المدينة العظيمة التي تعبق بالعشق والحب
الداخل إلى دمشق من جهة الربوة، تستقبله صخره شاهقة شامخة كتب (اذكريني دائماً).. أما الوجه الآخر فقد كتب عليه (لا أنساك).. فهل دمشق تحيي الزائر لها؟ بهذه العبارات، أم تذكّره بقصة عشق مرت على هذه المدينة!؟ ولا تريد دمشق أن ينسى أحد العشق الطاهر!؟

صخرة المنشار
منذ أيام الطفولة ونحن نسمع ونتداول قصصاً وحكايا، خيالية.. أسطورية.. واقعية.. عن هذه الصخرة الشاهقة المنتصبة بكل كبرياء عند مدخل الربوة.. مفادها بأن شابا أحب فتاة حبا جنونيا، لكنها تزوجت من شاب آخر، فما كان منه إلى أن صعد إلى أعلى صخرة في المنطقة وكتب على سطحها الأملس كلمة «اذكريني دائماً»، ثم ألقى بنفسه إلى قاع الفج منهيا حياته، ولما سمعت الحبيبة بما جرى لحبيبها تسلقت الصخرة وكتبت تحت عبارته «لن أنساك» ولحقت به وفاء لحبها وأصبح المكان يعرف لدى سكان دمشق «باذكريني دائماً».
على مدخل دمشق عند منطقة الربوة وعلى الطرف الشمالي صخره شاهقة «يبلغ ارتفاعها 40 متراً عن سطح الأرض» وكأنها تحيي القادم إلى دمشق، ويطلق عليها صخرة المنشار.؟! أو صخرة اذكريني.. أو صخرة الحب… أو صخرة الموت.. وهي من الآثار القديمة في «الربوة» ولم يبق من هذه الآثار القديمة في «الربوة» سوى بقايا هذه الصخرة والكتابة الكوفية الفاطمية تحتها التي تؤرخ عمارة «الربوة» المباركة في زمن خلافة «المستنصر بالله الفاطمي» الذي تولى الملك من سنة 427 إلى سنة 487 هجري.
لهذه الصخرة ارتباطات كثيرة مع دمشق من الناحية المادية والمعنوية، فعند عاتقها تقع فجوة (المُنيقبة) الآراميّة القديمة، التي يسيل منها الفائض من مياه نهر ثورا، وإلى جانبها ما يسمى «قوّامو الأنهار» أو«حالول الطاقة»، إضافة لبساتين كبيرة كانت تابعة لقصر البكجوري الذي شيده أحد ولاة الفاطميين على دمشق واسمه «بكجور»، إضافة لارتباط صخره المنشار بقصص وروايات رومانسية عمرها أكثر من مئه عام.
سميت صخرة المنشار لأنها تشبه المنشار، والأصح أن الدرج المؤدي الموجود هنالك سمي «المنشار» وكان يفضي إلى: (التخوت وهو قصر مرتفع على سن جبل به قاعة لبوابة وطيقان على هيئة الإيوان ينظر الجالس هناك من مسافة يوم لو لم يكن حائل وبه مئذنة ومسجد وميضأة، وتحته نهر ثورا، وفوقه نهر يزيد، يصعد إليه من سلم حجر بناه نور الدين للفقراء– ابن طولون-).
هذا الدرج أو السلم، كان يفضي إلى القصر فوق «صخرة المنشار» وقد ذهبت أكثر درجاته لطول العهد به، الصعود عليه خطر مخيف ولكن الجريئين من الشباب يغامرون في سلوكه على حد قول الباحث محمد أحمد دهمان.
أطلق فيما بعد على الصخرة عدة أسماء فهي صخرة المنشار، صخرة اذكريني، صخرة الحب، صخرة الموت.. وذلك لارتباطها بقصص وحكايات رومانسية، تعود لأكثر من مئة عام.
تحدثت كتب التاريخ والرحالة الكثير عن «منطقة صخرة المنشار» واعتبرت مكاناً مقدساً، فهاهو الرحالة ابن جبير الأندلسي الذي زار دمشق عام 580 هجري، يشير إلى أن هذا المكان هو الربوة، ومأوى السيد المسيح وأمه مريم ويصف هذا المكان وصفاً دقيقاً ينطبق على «منطقة صخره المنشار»: (بآخر جبل قاسيون وفي رأس البسيط البستاني الغربي من دمشق الربوة المباركة المذكورة في كتاب اللـه تعالى مأوى المسيح وأمه صلوات اللـه عليهما، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالاً وإشراقاً، وإتقان بناء واحتفال تشييد، وشرف موضع، وهي كالقصر المشيد، ويصعد إليها على أدراج. وهي كالبيت الصغير وبإزائها بيت يقال إنه مصلى الخضر عليه السلام).
الصخرة تستقبل الزائر لدمشق وكأنها تئن وتتنهد!؟ وتريد أن تجالسنا لتروي لنا قصة عشق وحب كانت شاهداً على نهايتها المأساوية!؟
يقولون: إن عاشقا أخفق في الحب فوقف على أعلى الصخرة وانتحر، ولم ينس أن يكتب على الصخرة رسالة وداع للحبيبة تقول: اذكريني دائما.؟! وحين علمت المحبوبة بما جرى، ذهبت إلى الصخرة وكتبت على الوجه الآخر (لا أنساك) و.. وانتحرت.؟! ويذكر المحامي والأديب نجاة قصاب حسن (1920ـ 1997م) قصه هذه الصخرة.

قصة حقيقية
يقول نجاة قصاب حسن المتوفى عام 1997م: (وصف ابن بطوطة الربوة قائلاً هي من أجمل مناظر الدنيا متنزهاتها. وهي واد مرتفع «ولذلك سميت بالربوة» عن سطح دمشق، وآخره فيه صخرة عالية إلى أيسر القادم إلى دمشق اسمها المنشار لأنها تشبه المنشار، وصارت لها منذ نحو أربعين سنة في ذهن الناس صورة عاطفية رومانسية، فالداخل إلى دمشق يرى قبل دخوله إليها كتابة تصافح عينيه في أعلى مدخل الربوة إلى اليسار، وقد كتبت بأحرف كبيرة ودهان لا يزول وكلما غسله المطر يتجدد لمعانه، وهذه الكتابة من جملتين أولاهما «اذكريني دائماً» والثانية «لا أنساك».
نسجت أساطير حول كاتب هذه الكلمات، وأجمعت كلها على أنها من صنع عاشق مجهول أخفق في حبه وقيل انتحر. وقد تحريت الأمر بلطف فعلمت أنه عاشق فعلا، ومن أبناء تلك المنطقة وأحب فتاة فلسطينية لم يزوجه أهلها إياها، ففي ليلة عقد قرانها كتب الكلمتين الأوليين، وفي ليلة زفافها بعثت إليه بأنها لن تنساه فكتب العبارة الجوابية، ولكنه لم ينتحر، ومن يعرفونه يتكتمون حول اسمه، وهذا أفضل لتبقى القضية خيالا حلوا.
الكلمات سطرت منذ نحو أربعين عاماً كما قلت، وقد يكون كاتبها من جيلي على الأقل فيكون قد جاوز الستين الآن، وقاربتها تلك المعشوقة الأسطورية التي ألهمت عاشقها أن يخاطر ويصعد إلى هذا المكان العالي ويخط هذه الكلمات على كل حال، ومع أن كلا العاشقين مجهول، فإن هذه الجملة توحي بالكثير من الرقة والحنين).

مجرد قصة عشق
يروي هاني الخير قصه صخرة المنشار والعاشقين بطريقة تغاير ما رواه نجاة قصاب، وأنه لم يتم انتحار أي من العاشقين إنما مضى كل منهما بحال سبيله، ويبدو أن «الخير» استقى معلوماته من أشخاص هم على دراية بقصه العشق هذه فيقول: (في الأربعينيات من القرن العشرين، أحب أحد الشبان من ذوي الثراء، فتاة رقيقة تماثله في الثراء، واتفقا بعد لقاءات بحضور الأهل وبغيابهم، على الزواج في أقرب فرصة سانحة، ليرزقا بصبيان وبنات يثيرون في العش الزوجي حالة من الفرح الإنساني، وكذلك إثارة الضجة وتحطيم الأشياء الثمينة.. ‏ ويبدو أن الشاب المدلل المترف، كان متردداً كالأمير الدانمركي هاملت، فقد تأخر كثيراً وعن حسن نية، في إرسال أهله إلى بيت المحبوبة، لأسباب غير معروفة بالنسبة إليّ، فكانت النتيجة المتوقعة والمؤسفة معاً، أن تقدم للزواج منها أحد الشبان اللبنانيين الذي ينتمي إلى أسرة مرموقة فاحشة الثراء، أي إنه عريس لقطة.. كما يقول المثل الشعبي الدمشقي. ‏
وأقيمت الأفراح وحفلات الطرب والليالي الملاح في دمشق سبعة أيام، ابتهاجاً بهذا الحدث السعيد، بعد ذلك اصطحب العريس السعيد عروسه إلى بيروت. ‏
فكان الشاب المدلل، الذي أشرنا إليه، يجلس فوق المرتفع الصخري، الذي يطل مباشرة على منطقة الربوة بدمشق، في انتظار قدوم حبيبته الهاجرة بسيارتها الحديثة، باعتبار أن طريق الربوة كان يصل دمشق بالعاصمة اللبنانية، ولابد للقادم أو الراحل، أن يمر في معظم الأحيان بهذا الطريق الضيق الملتوي، والذي كانت تزينه الأشجار الباسقة يومذاك، ويصفق به أحد فروع نهر بردى. ‏
وظل الشاب المفجوع يتردد بصورة مستمرة، إذا لم نقل بصورة يومية، إلى هذا المرتفع الصخري، عسى أن يكحل العين المحرومة من النوم بمرأى الحبيبة الغادرة… ولا نعرف إذا أسعفه الحظ بمشاهدتها… ومع مرور السنوات.. يستعيد الشاب توازنه النفسي، بعد أن كان في حالة انعدام وزن، فينقطع عن هذه العادة الرومانسية، التي تشي بمراهقة متوثبة نزقة ممزوجة ببراءة طفولية موجعة، ولكي يرتاح ويطمئن وجدانه يكتب على وجه الصخرة عبارة (اذكريني دائما) ويعود إلى بيته سالماً دون أن يرمي بنفسه المعذبة من أعلى الصخرة، لئلا يكون بهذا التصرف الأرعن قتيل الغرام، وليس شهيداً… المهم في الأمر أن الشاب لم ينتحر.. ولم يلق بنفسه إلى التهلكة.. ولم تفك عظام رقبته من جراء السقطة المرعبة، بل تزوج من فتاة جديدة أنسته ذكرى الحبيبة.. وربما مذاق حليب أمه على حد تعبير اللغة الشعبية..
ويبدو أن هذه العبارة.. ألهبت خيال ومشاعر بعض زوار الربوة، فراحوا يتحدثون بهذه القصة العاطفية في جلساتهم وسهراتهم، بعد أن أضافوا إليها نهاية غير سعيدة للعاشق الولهان، ومنهم من زعم أن الحبيبين قد انتحرا معاً في لحظة واحدة بعد أن تشابكت أصابعهما.. ‏
كان من المتوقع أن تمحى عبارة (اذكريني دائماً) وتبهت ألوانها وتطمس الحروف، بتأثير العوامل المناخية ومرور الزمن، أكثر من ستين سنة. ‏
وهنا يدخل على ملابسات هذه القصة العديد من أصحاب المقاهي والمتنزهات الشعبية، الذين أعادوا بالتناوب تحبير العبارة، كلما استدعت الضرورة، من أجل استقطاب الناس، وخاصة العشاق الجدد، فتكثر الأرجل وتزدحم هذه الأماكن بهؤلاء الرواد الذين يدفعهم الفضول وتنشيط الذاكرة لقراءة ما خطه العاشق الكبير. ‏
بقي أن نذكر أن الصحفي المخضرم عدنان الخاني، رئيس النشرة الفرنسية في سانا سابقاً يؤكد حقيقة هذه القصة كما ذكرناها، ويعرف أيضاً الأسماء الحقيقية لأبطالها الذين عاشوا بيننا، ثم أضحوا مجرد ذكرى..‏).

الحب بين الحقيقة والخيال
كما مر معنا فقد اعتبرت قصه الحب والانتحار من فوق صخرة المنشار رواية حقيقية، ولكن هنالك الكثيرين الذين يشككون بها ويعتبرونها من نسيج الخيال، ولا تمت للواقع بصلة!؟ حتى إن أحدهم قال إنه هو من كتب عبارة «اذكريني دائماً» على سبيل التسلية والدعابة!؟.
حكاية انتحار العشاق من فوق الصخور الشاهقة قصص متداولة في العديد من المدن، فهنالك في منطقة كورنيش «اللاذقية»، صخرة شاهقة يدعوها أهل المدينة بصخرة الانتحار، ويروى العديد من قصص الانتحار من فوقها…
وصخرة الروشة الشهيرة في بيروت والتي تعتبر معلماً سياحياً لبنانياً وهي عبارة عن صخرتين كبيريتين قريبة من شاطئ منطقة الروشة، هذه الصخرة رويت عنها قصص وحكايا عن العشق واليأس والانتحار، وأطلق عليها عدة أسماء فهي «صخرة الحب» أو «صخرة الانتحار».
وتبقى صخرة المنشار من معالم دمشق وتاريخها تستقبل كل قادم وتودع كل مغادر.. وتهمس في أذن كل عاشق أن الحب قوي وشامخ كالصخر..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن