ثقافة وفن

أدبنا الشعبي… مضمونه وأبعاده ومراميه سجل لخص به المجتمع حياته وتاريخه

| منير الكيال

تلعب البيئة الشعبية الدور الأكبر في تذوق عادات الناس وفي معايشة واستيعاب أساليبهم ومقولاتهم وتقاليدهم بالتعبير عن أنفسهم في إطار من الحنين إلى الطفولة، لما في ذلك من تصوير غير مباشر عن أصداء القلق والإقناع والمؤانسة. ولما تعرض له الناس من ألوان الظلم والاستبداد، فضلاً عن الدعوة إلى الأصالة وما يتفاعل في ثناياهم من أسباب الود والبر والوفاء وإنكار الذات.
ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نشير إلى دور الباحث والمؤرخ والمثقف حيال أدبنا الشعبي بخاصة، وتراثنا الشعبي بوجه عام، لأن هذا الأدب ينبع من وجدان الشعب وثقافته التي عاشها عبر التاريخ وإذا كان اهتمام المؤرخين السابقين ينصب على النواحي التي ترتبط بالقادة والملوك ومن والاهم، فإن انتشار تعابير الحرية والديمقراطية والاشتراكية في عصرنا، جعل اهتمام الباحثين ينصب على النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية والحياة اليومية، وبكل ما له صلة وثيقة بالشعب، ويتكرر في حياته، ويصبح له صفة ملازمة له، وخاصة من خواصه يعرف بها في فترة زمنية، أو عصر من العصور.
وفي ضوء ذلك فإن تراث شعب من الشعوب لم يعد مقصوراً على الآثار المادية الشاخصة بالمتاحف، ولا على ما تمثله كتابات الشعراء والأدباء والمفكرين، لقد تعدى ذلك إلى ما يصدر عن عامة الشعب من فن أصيل يتوصل إليه بالكلمة والإيقاع والتشكيل، وغير ذلك من عناصر الثقافة التي تعارف عليها الباحثون بالتراث الشعبي.
ذلك أن هذا التراث لم يكن في يوم من الأيام، بقايا رواسب حضارة سابقة، أو مرحلة اندثرت، بل إن هذا التراث إنما هو ثقافة السواد الأعظم من المجتمع، ثقافة سايرت المجتمع مسايرتها لحياة الأفراد في سلوكهم وعلاقاتهم وما هم عليه من أسباب الحياة العامة والخاصة.
ومن هذا المنطلق، يذهب باحثو الأدب الشعبي إلى القول: إن الأدب الشعبي هو فن القول التلقائي المتوارث المرتبط بالعادات والتقاليد، وهو نتاج جماعي أبدعه المنشئون، وصقله الرواة، وجوده التداول. وينطوي تحت لوائه ألوان منها: الأسطورة والخرافة والحكاية والسيرة والأقوال والأزجال والألغاز (الحزازير) والزغاريد والأمثال وصولاً إلى الأغاني والأراجيز، بل إلى ما تناوله مسرح الظل من أعمال ترتبط بمسرح الحياة.
ولو توقفنا عند موضوع من هذه المواضيع، لاستطعنا أن ندرك ما للأدب الشعبي من أهمية بالتراث الشعبي، فالحكاية الشعبية على سبيل المثال استحوذت على اهتمام العديد من الباحثين، الذين عمدوا إلى دراسة الحكاية الشعبية وجذورها وأبوابها وما هي عليه في حياة الشعب، أكان ذلك بارتباطها بالحياة، أم بما تقوم به الحكاية من توجيه أو تقويم لحياة الناس وسلوكهم على المستوى الفردي أم على المستوى العام.. وخلصوا إلى القول بوجود أنماط لهذه الحكاية ومن هذه الأنماط الحكاية الميثيولوجية والخرافية، والبيولوجية وكذلك الحكاية الأخلاقية والهزلية، ومن ثم عقد موازنات بين هذه الأنماط، وصولاً إلى أشكال للتعبير تواكب معطيات الحياة، وما ذكرناه عن الحكاية الشعبية من تفرعات وتصنيف يمكن أن نلحظه في سائر مقولات الأدب الشعبي أكان ذلك في الأمثال أم الأقوال.. بل حتى بالزغاريد (الزلاغيط) والأحاجي.
حتى لكأن الأدب الشعبي سجل المجتمع لخص به تاريخه وتجاربه، وموقفه من حلو الحياة ومرها، فهو صورة للأطر التي تحكم المجتمع بشتى مجالات الحياة، وإذا كانت الحياة اليومية تجيز لنا التحدث بما تقتضيه هذه الحياة، دونما عناية بسبك الكلام، وتجويد النسيج اللغوي، فإننا نلحظ بالأدب الشعبي جودة اللفظ وحسنه ونقاءه بإطار قيم جمالية، وتعابير سلسة، تتقبل الذاكرة اكتنازها، ولا تمج الأذن سماعها، على الرغم مما يضم هذا الأدب من صيغ الرمز والتأويل والتلميح والتورية والكناية والإشارات الأسطورية.
وبما يعبر هذا الأدب عن خلجات النفس الإنسانية، ويعمل على نقل انفعالات الإنسان وخواطره، الأمر الذي يوصل الباحث إلى معرفة الحالة الذهنية والروحية، والتكوين الفكري والعاطفي للمجتمع.. وبالتالي التعرف إلى الدوافع النفسية الشعبية وميولها وسلوكها إزاء علاقات الناس بعضهم ببعضهم الآخر، الأمر الذي يجعل من الأدب الشعبي قادراً على استحواذ الدراية بمعرفة واقع التفكير الشعبي وجذوره، ومن ثم تحليل ما قد يكمن وراء هذا السلوك أو ذاك وبالتالي أبعاد ذلك الواقعية والغيبية، وبخاصة إذا توافرت لدى الباحث سليقة نشأت في محيط شعبي ونما ذوقها على مألوف عادات الناس في حياتهم اليومية.
ومن جهة أخرى فإن الأدب الشعبي يمتلك القدرة على احتضان الألفاظ والتراكيب والمعاني واشتقاقاتها وصياغتها وروايتها ببناء فني يجسد أدق الخلجات النفسية والمشاعر الإنسانية، مشاطراً بذلك الفنون والمعارف الشعبية الأخرى، كالرقص والتمثيل والغناء التي لا تتم إلا من خلال الأدب الشعبي، لأن مقولات هذا الأدب تتداول باللهجة المحكية، وتداولها بالفصحى يفقدها الحرية الشفوية التي نستمتع بها، ويفقدها القدرة على التجاوب مع واقع البيئة ويبعدها عن الجو الذي يعكسه المجتمع الشعبي وبالطبع فإن ذلك لم يكن بحال من الأحوال الدعوة إلى تفضيل الأدب الشعبي على أي من صور الأدب العربي.
ولعل مما يؤسف له، أن نلحظ بهذه الأيام من يعمد إلى استعارة مقولات من الأدب الشعبي ليوظفها بالأعمال التفلزيونية أو المسرحية على نحو مخالف ويشوه لما يرمي إليه الأدب الشعبي، ومن ذلك مقولة: زبون العوافي التي وظفتها الأعمال المسرحية أو التلفزيونية بغير مدلولها بالأدب الشعبي، فأطلقوها على المرء الذي يحضر لدى ذكره، بينما أراد بها الأدب الشعبي، خدين (عشيق) المرأة المتزوجة.
ومن جهة أخرى فقد عايش الأدب الشعبي دورة حياة الإنسان من حمل وولادة وطفولة ومراهقة وزواج ورجولة، مرافقة الظل، كما رافق هذا الأدب الإنسان بعمله ولهوه وعلاقاته مع الآخرين، فكان لهذا الدور المهم بترسيخ قيم أخلاقية وروحية توضح موقف المرء من الأمور أو الإشكالات التي يواجهها في حياته فلا ينهج إلا النهج السليم.
والأدب الشعبي يلبي بذلك حاجات السواد الأعظم من المجتمع، الفكرية والفنية والروحية والاجتماعية، أكان ذلك في محتواه أم في لغته وطرائق تداوله، فضلاً عن تجسيد أسلوب التفكير والسلوك العام لشرائح المجتمع التي تتعايش بين ظهراني هذا الأدب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن