ثقافة وفن

بين رؤية الإدارة الضيقة والطلبة ضاع المشروع وتناثرت الجهود!!…مشروع التخرج لطلاب السنة الرابعة قسم التمثيل… صعوداً في «زواج فيغارو» هبوطاً في الملك «لير!»؟

عامر فؤاد عامر -تصوير: طارق السعدوني : 

يقول «ستانسلافسكي»: «العمل الفني المُجزأ لا يعدّ عملاً إبداعياً مهما بلغت أجزاؤه من الجمال»، فلوحة الفسيفساء المؤلّفة من قطع كثيرة ملوّنة، وجميلة، ومتناثرة، لن تقدم مشهداً جماليّاً، واضحاً، وكاملاً إلا إذا اجتمعت كلّها معاً لتشكل هذه اللوحة، وهذا ما ينطبق على ما حصل في مسرحيّة «الملك لير»، وهي مشروع تخرج طلاب السنة الرابعة لقسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، فكلّ طالب من الطلاب الأحد عشر كان يجتهد ويجاهد ليقدّم ما أمكنه من المتاح في هذا العرض، ولكن اليدّ الرابطة للعمل الجماعي، ولإنجاحه، وجعله كتلة واحدة، لم تكن موجودة، للأسف، وأقول للأسف لأن هؤلاء الطلاب أنفسهم كانوا قد قدّموا عرضاً مميزاً في العام الماضي، وهي مسرحية «زواج فيغارو» التي لاقت إقبالا هائلاً من الجمهور، فكانت عرضاً مثاليّاً يمكن اعتباره عرض تخرج حقيقي، وبسهولة، والدلالة على كلامي هذا هو أن «زواج فيغارو» عُرضت في مسرح «الأونيسكو» في بيروت، بعد العرض الأول في المسرح الدائري في المعهد العالي للفنون المسرحيّة، ثمّ عُرضت في مسرح دار الأوبرا في دمشق، أي قدمها هؤلاء الطلاب ثلاث مرّات في ثلاثة أماكن مختلفة، وطبعاً في كلّ مرّة عدّة عروض. إذا هؤلاء الطلاب لا يمكننا أن نقيمهم ونمنحهم العلامة بناءً على أنهم طلاب في مرحلة تخرج، بل هم طلاب خارج هذا القياس، والدلالة على ذلك شهادة الكثير من أساتذتهم على تفوقهم، واهتمامهم. ولذلك بحثنا في بعض ظروف وأسباب ما حصل معهم.

تحت المجهر

لتكن البداية مع تشريح لعرض «الملك لير» الذي يعدّ مغامرة في تحويله لمسرحيّة، إذ حتى على مستوى العالم يتمّ الابتعاد عن هذا النصّ لإشكاليّة خاصّة به، فهو من جهة صعب التطبيق على خشبة المسرح، ومن جهة ثانية يحتمل عدّة قراءات، ومن جهة ثالثة لم يقدّم في سورية على خشبة المسرح منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وأيضاً على مستوى العالم تمّ تحويله لفيلم سينمائي لأن ضبط هذا النص في أدوات سينمائيّة يتناسب مع طبيعة هذا النصّ المسرحي أكثر من كونه على خشبة المسرح، إضافة إلى أن الأدوار ومنها دور الأبّ، والابن، والملك، وصفات كثيرة يبرزها النصّ تحتاج لأشخاص ناضجين وكبار في السنّ، وأصحاب خبرات متعددة، وليس طلاباً في مشروع تخرجهم! ومن المعلوم أن الممثل العالمي (alpatino) يشتغل على تأدية دور «لير» في فيلم سينمائي اليوم، وكان قد عُرض عليه أداء هذه الشخصيّة «الملك لير» قبل عشر سنوات، فرفض، وقال مبرراً بأنّه يحتاج لعشر سنوات مزيدة كي يصبح جاهزاً لتأديّة مثل هذا الدور. فهل يمكن وضع هؤلاء الطلاب تحت المجهر؟

رمية بغير هدف
بدا العرض مترهلاً مع غياب الرابط في لوحة كاملة، فمن الممكن رؤية جهود الطلاب كلٍّ على حدا فقط، أمّا التكامل في الجهد فلم يكن موجوداً، أي لا قيادة ناجحة للعمل، والصورة الأخيرة له، وبالتالي ضاعت الجهود المبذولة على الرغم من إبداع بعضها، والتعب فيه، فكانت الرمية في غير هدفها، وهنا يقع اللوم على المخرج الذي لم يستطع إيصال الطلاب لبرّ الأمان المطلوب. فكان هناك غياب كامل للمذهب الأساسي للنصّ التراجيدي بسبب عدم القيادة الصحيحة من الإخراج، فكان هناك ميل باتجاه الكوميديا بصورة مفاجئة، ثم ظهور لمذهب آخر مختلف، وهكذا، بالتالي غابت الهويّة التي يحملها النصّ، ففي لحظات تراجيديّة مهمّة، كطرد الملك ورغبته في الذهاب لابنته في فرنسا وهي من أصعب اللحظات عندما نقرؤها في النص الأساسي، في حين تمّ تحويلها في العرض هذا إلى كوميديا غير ناجحة!.

مشروع التقسيم
الحامل الأساسي للنصّ بدأ من فكرة مفادها أن التقسيم الذي قام به الملك «لير» هو تقسيمٌ أدى إلى هلاك المملكة، على الرغم من اعتقاد الملك بأن هذا التقسيم سينقذ المملكة من الخلافات والصراعات، وهذا المحتوى هو الأساس المهم الذي يقوم عليه النصّ، وهو يلامس الجمهور مباشرةً، وخاصّة أنّه يحاكي الواقع الحالي الذي نمرّ به، فكثيراً ما تصدّت التحليلات السياسيّة لفكرة مشروع التقسيم في سورية، وكثيراً ما أنبأتنا نشرات الأخبار عن نيّة خارجية من دول معادية في تنفيذ مثل هذه المخططات القذرة على وحدة بلدنا، إلا أن العرض هنا مرّ عليها مروراً عاديّاً بارداً، ولم يقدّم أيّة إشارة أو لفتة واضحة عند هذه النقطة الجوهريّة، فلا يمكن أن يحكم البلد من خلال عدّة رؤوس، فهل من الممكن أن يأتي التقسيم من دون خلاف؟ بل هذا هو المهلك والسقوط بعينه.
عدم وجود قراءة للير
عندما نرى ما قدّمته المسرحيّة نجد أنها مرّت على كلّ الأحداث بصورةٍ عابرة، فلم تركّز على موضوع تقسيم المملكة، ولا على علاقة الآباء بالأبناء التي جاءت كحدث عادي، وأيضاً هناك تعدد الآلهة والحلفان بأكثر من إله من قبل أبطال المسرحيّة، بالتالي هناك زعزعة حتى في هذا الموضوع، والذي لم يتطرق له العرض بصورة حقيقيّة. وهذا إن ذكرناه فمقصدنا أنه لم يكن هناك قراءة واضحة وحقيقيّة لمسرحيّة الملك لير.

ديكور أبيض وتهميش
الديكور غير موفق، فاللون الأبيض على مسرح الحمرا الكبير في الحجم حمل تشويشاً لعين المُتلقي، فالممثل بدا صغيراً، والبياض كان مسيطراً على المشاهد كلّها، بالتالي هناك تشتيت لعين المشاهد، وأيضاً لم تتمّ معالجة الصوت ضمن هذه المساحة الكبيرة أبداً، بل إن كثيراً من الجمل المهمّة لم تصل للمتفرج كما يجب بل ضاعت في الفضاء، بسبب المساحة الكبيرة. أمّا بالنسبة للإضاءة فلم تُسلط كما اعتدنا على ما هو مهمٌّ من أحداث، ولم يكن هناك تركيز على هذا الأمر أبداً، فهناك أحداث لم يُلقَ الضوء عليها بالمطلق بل كان هناك تموضع للممثلين على الخشبة جاء بصورة هامشيّة لبعضهم، على الرغم من أنه يجب أن يكونوا في صدارة المشهد، ومن هذه المشاهد عندما قال البهلول: «عزّ البهاليل انتهى»، أو في لحظة موت «غلوستر» الجانبيّة جداً… إلخ. هناك نقطة شوشت المشاهد عندما بدأ «إدغار» بحمل والده الأعمى، والصعود إلى أعلى الجبل، ورميه من القمة، وعدم موت هذا الوالد، فهناك عدم توضيح لهذا المشهد ولاسيما أنّ بعض المشاهد كجري «إدغار» في مكانه، ومشهد حدوث العاصفة، والتي تمّ استخدام الأداة الشرطيّة فيها، لكن خدعة المتلقي بأن والد «إدغار» سقط من الأعلى، ولم يمت فكانت صعبة التصديق، كما في مشهد ابنة الملك التي دخلت وهي تتألم وخرجت وهي تتألم لترمي نفسها ميتة على التابوت، إذ لا يمكن تصديق المشاهد لأحداث غير مبررة، بل جاءت فقط لتتمة الحدث والحكاية! فهناك طرق غير مشروحة وغير مبررة أدت لنهاية المملكة والموت حسب ما رأينا على الخشبة، فبعد أن قرر «الدون ألبني» التخلي عن ملكه للملك يموت الملك لير وهذه لحظة تراجيديّة أخرى مرّت بسذاجة، ولم تكن مفهومة للمتلقي أبداً، ثم يموت الممثلون بطرق ساذجة غير مسوغة.

البهلول والإخفاق
«جان دحدوح» أحد خريجي هذه الدفعة، بين لنا شيئاً من ظروف العمل والتدريب على البروفات قبل العرض فقال: «ثلاثة أشهر لم تكن كافية كمدة زمنية للتحضير للعرض، مهما كانت جودة الممثلين، والمخرج متوافرة، إن هذا قتل لمسرح شكسبير، فقد كانت المشكلة هي إقحامنا في النص والتمثيل فوراً من دون فهم للنصّ وتحليله، فمثل هذا العرض سيحتاج على الأقل الى سبعة إلى ثمانية أشهر، وقد بقينا نناقش قابليّة هذا النصّ للتطبيق إلى ما قبل تقديم العرض بأسبوعين، فالأغلبية العظمى منّا – الطلاب – كانت تحمل في داخلها عدم قناعة في اختيار هذا النصّ». وعن شخصيّة البهلول التي أداها «جان دحدوح»، والتي هي من الرموز القويّة في حاشية الملك، وتعدّ شخصيّة جدليّة كان الملك يختارها، ويهتم بها ليس للضحك، والهزل، والتهريج، كما يظن البعض، بل الهدف منها هو إضاءة لنقاط مهمّة يطرحها البهلول لإيقاظ فكر الملك في حال لم يصب في تفكيره في الحكم على الأشياء، وبالتالي تلافياّ للخلل الممكن أن يقع من خلال هزليّة البهلول، وتعليقاته الطريفة، ومثل هذه المهنة تحتاج إلى الذكاء المتميّز، والتيقظ الدائم، حرصاً على مصلحة البلاد، وعن هذه الشخصيّة يعلّق جان دحدوح»: «لم تُقدّم شخصيّة البهلول كما يجب، فقد عانيت من حذف المشاهد منذ الجلسة الأولى وقبل قراءتي للدور، كما تمّ حذف المونولوج الأخير للبهلول والتي هي نهاية غامضة تأتي بعد روايته لنبوءة طويلة، فالنقاد يشيرون لهذه الإشكاليّة لأن البهلول يحمل نهاية مفتوحة في غيابه، وهذا ما سُئلت عنه كثيراً بعد كلّ عرض، بمعنى ما الذي حدث للبهلول؟ أيضاً تمّ حذف كلّ شيء فلسفي يتفوّه به البهلول، وبالتالي جاء دور البهلول ساذجاً، دوره التهريج والتسلية فقط، ثم إقحام دور البهلول في دور الطبيب كان جداً غير موفق، فكنت أؤدي الدور، وأنا غير مقتنع بما يُقدّم، فكيف يتحوّل البهلول إلى طبيب من دون وجود لباس خاصّ للطبيب، هذا ما لا يمكن للمتلقي تفسيره». يمكن إضافة المزيد من الملاحظات والتي أبدؤها في إقحام البهلول في كثير من المشاهد من دون أن يفعل شيئاً فيها وحتى في المشاهد التي يتحدث أو يتصرف فيها لم يُلقَ الضوء عليها، وهناك الكثير من الحركات غير المبررة التي يقوم بها البهلول بالتالي ظهر ساذجاً بسيطاً يقدم ضحكة أو بسمة، ولكن ليس هذا هو الدور الذي يجب أن يقوم به البهلول الشخصيّة الجوهريّة في العرض!».

التمثيل من مدارس مختلفة
أيضاً التقينا «شادي قاسم» أحد خريجي هذه الدفعة وقد بين لنا في تصريحه صورة عما حصل في مرحلة التحضير للعرض: «العرض يحتاج مكاناً للتدريب، وعمليّاً قمنا بعشر بروفات فقط، إذ لم يتمّ تأمين مسرح أو استديو لنتدرب فيه، ولندرب الصوت، وبالتالي كنا مشتتين في اختيار المكان، وكان اجتماعنا غالباً بعد الثالثة في مسرح الحمرا، أي بمعدل ساعتين إلى ثلاث فقط، وهذا لا يكفي لتقديم عرض بقوة «الملك لير» أبداً!». وبالمقارنة مع عرض «زواج فيغارو» يكمل «شادي قاسم»: «كانت المدّة التي تدربنا فيها على عرض «زواج فيغارو» العام الماضي ستة أشهر، وفي كلّ يوم من الساعة العاشرة إلى الرابعة، وبالتالي ظهر بتلك الجودة، أمّا في عرض «الملك لير» فقد جرّبت للمرّة الأولى المكياج والعيون العمياء في دوري خلال العرض الأول على المسرح وأمام الجمهور، ولذلك سقطت العيون أكثر من مرّة ولم تلتصق على الجلد بسبب التعرق، وهذا جاء نتيجة قلّة التدريب، ولذلك لجأت في اليوم التالي لوضع رباط على العينين، وأيضاً لم يكن هناك وضوح من المخرج تجاه العرض، فلا هدف محدداً، لذلك وجدنا أن كلّ ممثل يسعى لينجو بنفسه من خلال التأدية في مدرسة مختلفة عما يؤدي زميله وهكذا، بالتالي لن يسعنا الدفاع عن عرضنا بل كان في غير المستوى المطلوب، فغابت لغة التعاون ولم يكن هناك لغة موحدة لقيادة العرض نحو هدفها، فـ«لير» من النصوص الإشكاليّة التي تحتاج الدقة والعناية في تقديمها ووضع مبررات كثيرة لتفاصيل العرض». وعن دوره «غلوستر» يضيف: «غلوستر هو مستشار لير العسكري، ومطلوب كي ينجح هذا الدور ويتضح في ذهن المتلقي أن يكون هناك كثافة في التدريب عليه، فكيف إذا كانت التدريبات قليلة جداً جداً».

بناء شخصيّة مشتتة
الشخصية المحوريّة الرئيسة التي أداها «لجين اسماعيل» وهي شخصية الملك «لير» التي برع في تقديمها ولكن لغياب لغة التعاون والتدريب القليل ظهرت فيه الفجوات على الرغم من الإتقان في مواضع كثيرة، وعن ذلك يقول «لجين اسماعيل»: «وضعنا في ظروف صعبة جداً وكان هناك عدم تفاهم وتعاون بيننا وبين الإدارة فقد طبقت علينا قاعدة نفذ ثم اعترض، ثم استمرت الإدارة في المعهد في عدم تبني العمل بالمطلق، على الرغم من حضور الإدارة أربع بروفات وملاحظة الترهل وأسبابه ولكن لم يكن هناك أية مبادرة للمساعدة والرفع من مستوى العمل، وما حصل هو نتيجة طبيعية لها علاقة بمكونات عمل مسرحي من النوع الصعب مع وجود طريقة أداء غير موحدة بين الطلاب وعدم وجود لباس موحد بين الفريق والديكور والكثير من المشاكل الجوهريّة». أمّا عن دوره في بناء شخصّة «الملك» فيضيف لجين اسماعيل: «بقينا قرابة شهر ونصف الشهر نتدرب على تأدية الحركات ولم نركز على بناء الشخصيات بتوجيه من المخرج إلى أن أتقن قسم كبير من طلاب الدفعة هذا الأمر ليأتي القرار من الإدارة والمخرج بإلغاء الحركات والتركيز على بناء الشخصيات في حين أن الوقت كان قد مرّ ولا يمكن تدارك الضعف، وبذلك تمّ نسف العرض بهذه الطريقة».

لماذا؟
تبقى الدهشة موجودة بعد متابعة جهود أربع سنوات من التعب والاجتهاد والتفوق لتكون السنة الأخيرة هي الأضعف إذا ما اعتبرنا أن مشروع التخرج هو العنوان المتعلق بطلاب الدفعة المتخرجة، لكن السؤال هو إذا كانت الإدارة علميّة ومتفهمة لكل ما يحصل فلماذا تمّ اختيار مسرح الحمرا – وهو من أكبر المسارح المتوافرة لدينا – لتقديم هذا العرض على الرغم من علمها بضعف العرض؟! فكان من الأجدر بها أن تبقي العرض ضمن حدود المعهد فقط. هل هناك أسباب خفيّة بُني عليها هذا القصد أم فقط كان الاستعراض هو الهدف؟! وهذا السؤال قد يكون باباً لمواضيع قادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن