ثقافة وفن

بين يدي شام

| إسماعيل مروة 

ظمئ لروحك يا عمر العمر يا شام، أتوه على ربوتيك اللتين أقدسهما، أتمرغ على الجسد والروح، أتعشق إغماضة العينين وأنت نشوى بما أتلوه من مزامير على مسمع روحك وعشقك
أتوق للانتهاء على حدود الوله والعشق
أسأل عن حبيب كان ولم يكن
أتساءل عن ريق الحياة ينسكب مع نبعك الذي أتعشق
آه عندما يغيب صوتك نشوى وأنت تردين الروح إلي
في شهقة الأبد الأبد..
مشتاق لضمك وريحك
أراك في الروح والعبق
مشتاق لجسدك المضمخ بروح الأمومة
فهل أصل إلى حافة الحياة
لأكون أنا؟!
تمددي في حدقات الأعين
دعي بخور الجسد يتسلل إلى العالم الأنقى
انعتقي..
أهبك ذاتي
أمنحك ألوهة لا تنتهي
يا سيدة النور يا شام
يا بحة الصوت المجرِّح والمجرَّح
يا كل الكل
دعي ما أشاء وما تشائين
في عالم النور سأعجن بك
لا أكون ولا تكونين
يكون العالم من جنون ووله
أحبك.. أشربك.. أتعشقك
ادخلي بي لعلي أصبح سماءً بك
ها هي الأغنيات بخط يده تنام تحت مخدة القداسة والطهر، إنها الكنز الغالي الثمن، بخط العابد العاشق، بدموع هي جوهر العين، بدم هو مداد الروح، أرادتها شام وديعة لديها وبخط اليد، علامة العشق الذي لا ينتهي قبل الرحيل، إشارة الود المنزرع في الروح وفي كل فاصلة ومسام… تدرك شام أن العابد راحل قريباً، لابد أنه مفارق، قد يرحل يوماً، قد يفارق دهراً، قد يختفي أبداً… لذا أرادت أن تحتفظ بأغنيات العشق وتراتيل الغرام لديها… لم تشأ أن تكون بحروف آلة جوفاء… لم تقنع بها إلا بخط اليد المنمنم لتكون شاهداً على هطل المطر.. ها هي الدنيا تمطر لتغسل روح شام، وها هو يطوق أرصفتها بيديه، لن تخشى شام أن تمطر الدنيا والعابد يبتعد عن نداها… الدنيا تغسل وجهها وتغسله، الدنيا تمطر مطراً وحباً ودماً، وهو ينزرع عند كل فاصلة من فواصلها، عقارب ساعتها تتحرك بإشارة منه، تراتيل العشق وتسابيح الهوى تنساب في جنباتها بصوت عذب عذب… وهي تنطمر في صدره في ثناياه باحثة عن دفء وبقايا لروح وهوى لا يقدر الزمن أن ينال منه… كل يوم عيدها الشام، ودمه النبيذي ينسرب في حنايا الجسد وعلى ذرات تراب القداسة تحت رؤوس الأولياء والصالحين… للنبيذ يوم شآمي تلون بالدم، وبعدها نشوة الحب السكرى تجوب الأماكن بحثاً عنه بعد الرحيل الطويل.
حروفه تداعب أصابع اليدين بحثاً عنه بعد الرحيل الطويل…
حروفه تداعب أصابع اليدين بحثاً عن ألق الألوهة
شفاهها تعابث القدر وتنسى أن العابد على حدود الوله والعشق
يا نبل شام ومشاعرها… عندها يتوقف الزمن، العقارب لا تتحرك، كل الساعات شامات على حافة الانتظار، والزمن يتماهى وهي تضم ابنها، طفلها، عابدها إلى صدرها… هكذا أحب تقول شام، تتركه على حافة الصدر، هكذا أحب، أنت هكذا أقرب… شام تدري أن طفلها حرم كل شيء، لم تكن له طفولة، لم يسبح في أغوار الكون العبق، لا يزال على حدود الأرق الممض، لذلك أراحته إلى صدرها، طمر رأسه وانطمر عندها، غابت الألوان، ضاعت الأكوان، وهو يلوب بشفتيه وعينيه على كل حجر رصيف في شامه التي عشقها ومنحها الأبد… يريد أن ينهل قبل الرحيل، الرحيل القادم من قلب الصقيع الذي اكتوى به عمره الماضي، وها هو يرافقه في رحلة الأبد القادم.
لا يريد الرحيل، لا يتمنى المغادرة، فعلى صدر شام الأرض والإنسان تحلو الحياة، تحلو المغادرة، يحسن الرحيل الأبدي، في المسافات، وفي كل الهضاب والوديان التي تنسرب فيها مياه العذوبة والنقاء… ترفع شام رأسه، تمسح شعراته المتبقية، وتترك له حرية أن ينصب طوله ليغادرها إليها لا غير، ففيها كل ما فيها مما يودّ أن يستريح فيه ومنه وبه… يتوقف الزمن عند حدود شفتي شام.
يحار الزمن ما يفعل أمام لمس اليدين وارتجاف الشفتين
والمساحة الممتدة بين شلال الشعر الغامر والعنق بعيدة، وبين قبة الشيخ محيي الدين والشيخ رسلان بعيدة، تحتوي عبق الزمن القادم لخريف يستلذ بتساقط الأوراق الصفراء، وبتعرية الشجر المنتشر في الأنحاء ليبثه في التراب، في الطين، في الأرض، في كل الأنحاء، لعلّ حياة جديدة تبدأ في منسرح الروح وأنشودة البقاء.
تعدّ شام قهوتها.. تترك لها وجهاً تريده أن يلبس ابنها كما لم يفعل من قبل..
تحمل قهوتها… تسفحها.. لا تود إصلاحها…
على رصيف شام لا يكون كل شيء إلا جديداً وأصيلاً وعبقاً…
ها هي أغنيات منمنمة، دعيها صلوات تحت مخدتك تحفظ ما تبقى وما تبقى كثير…
خذيها وانثريها من الأعالي أغنيات تزين جبهتك وشعراتك، لتعود إلى العاشق المترقب في كهف يراه النور ويسكنه العابد الباحث عن عشق الأزل… أوقفي الزمن، لست بحاجة له.. أنت الزمن يا عمر العمر المتبقي..
اطمري الأمنيات للغد الذي انتهى
احفظي الطهر للأمس الذي لم يشرق
غداً تشرق الشمس وكل غد..
إنها ليالي الأنس في الشام… يا شام الألوهة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن