من دفتر الوطن

خارج التغطية..!

| عصام داري 

كيف تكون في قلب العالم، وفي الوقت نفسه خارج هذا العالم؟!.
سورية تقع في قلب العالم، ونقطة الوصل بين قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، والبوابة التي عبرتها الأديان السماوية إلى العالم، وتفاعلت الحضارات الراقية على أرضها لتنتج مزيجاً فريداً من تلاقي الفكر الإنساني على مرّ التاريخ.
فكيف تكون في قلب العالم وخارجه في الوقت عينه؟ كيف تدخل صومعة العزلة المظلمة وأنت وسط عالم يشع بالأنوار وضوء الشمس؟.
أمور صغيرة وتافهة تجعلك تعود إلى العصور الوسطى، وتدخلك في عالم لم تكن تتخيله ولا في أسوأ كوابيسك. قبل ست سنوات خلت، لم نكن نفكر بهذه الأمور العادية، الماء والكهرباء والإنترنت والوقود من مازوت وغاز وبنزين، لكننا وقد غرقنا في الأزمة حتى أرنبتي أذنينا، صرنا نفرح عندما يأتي التيار الكهربائي، ونحزن عندما يغادرنا بعد ساعة وتخيم الكآبة علينا.
نجد أنفسنا غير قادرين على الذهاب إلى موعد مع صديق لقضاء سهرة سمر نتناول فيها قضايا الثقافة والفكر والفن والسياسة والاقتصاد، وكل شؤون البلد، الحرب والسلم، الأوضاع التي وصلنا إليها، انتشار الفساد، انتشار النار في الهشيم، عندما تجد نفسك مسجوناً في بيتك فقط لعدم توافر الوقود لسيارتك، فتلك مصيبة صغيرة تضاف إلى مصائبك الكبيرة.
تشعر فجأة أنك في قلب الحرب وليس في قلب العالم وحسب، كأنك كنت في حلم مزعج طويل، وعندما استيقظت تحول إلى واقع، ورأيت بأم العين أن هناك جيوشاً من أشخاص بلا وجوه ولا ملامح يقتلون كل ما بنته الحضارة في آلاف السنين.
هل اكتشفت هذه الحقيقة المؤلمة قبل انقطاع التيار الكهربائي؟ أم عندما تشققت شفتاك عطشاً والمياه على بعد مسافة طولها من العصر الجاهلي إلى عصرالآلة والتكنولوجيا، وعرضها ملايين السنوات الضوئية، لكنها مسافة لا تتعدى الكيلومترات القليلة؟
أمور صغيرة تحول أفكارك من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فتجد صعوبة التفكير في العشق والحب والخيال، على حين مطلوب منك تأمين الرغيف وجرعة ماء وشمعة ومكان آمن بعيد عن عيون الحرب تتنفس فيه الحرية والهواء النقي، إذا بقيت مساحة متر من الأرض لم يصلها الموت المتنقل، وعين ماء صغيرة اختبأت في واد لم يصله شبح الحرب المخيف.
أنت في قلب العالم، لكنك خارجه تماماً، وبلغة التكنولوجيا الجديدة: أنت خارج التغطية، أو خارج الخدمة، لكنك مضطر أن تسير نحو الأمام، وتدرك أنك وسط حقل ألغام، وصحارى واسعة لا ينبت فيها إلا الشوك، وأن الموت يتربص بك عند كل مفرق وحارة وشارع، وأن الأزقة باتت ملاذاً للخوف.
أعرف أننا لن نبقى خارج العالم، وأننا سنستعيد مكاننا في قلب العالم، لكن المشكلة أننا لا نعرف إلى متى سنظل خارج التغطية، وهل ستلاحقنا الأزمات المفتعلة في أغلبيتها، وأين سيتوقف قطار هذه الأزمة القاتلة والطاحنة؟
تذكروا أننا في الحرب.. وأن الحروب تحمل الويلات، كما سفر برلك والحرب العالمية الثانية، لكنني أظن أننا في وضع ربما هو أسوأ من كل الحروب، فالموت يهاجمنا من الخارج والداخل والأطراف كافة، والشجاع وحده من يستطيع الوصول إلى خط النهاية بأقل الأضرار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن