من دفتر الوطن

كلمات.. وفن الإصغاء!

| عصام داري

لا أملك من متاع الحياة إلا ما يكفيني ليوم واحد، وأنتظر الغد فربما يحمل لي بشرى تلون أيامي القادمات، ويطول انتظاري.
لكنني أمتلك بحراً من الكلمات، جداول سحر من أبجدية هي أجمل الأبجديات، وأروع الأبجديات، لكن الحروف والكلام العذب والشعر والنثر لا تغني، ولا تطعم من جوع، ولا تدفئ عندما يهاجمنا الصقيع والبرد والثلج.
هل أخطأت الدرب التي مشيتها من أول المشوار حين اخترت مهنة المتاعب، ووهبت لها عمري كله؟ وها أنا أصل إلى آخر المشوار لا أملك أي كلمات «ليست كالكلمات» كما يقول أستاذنا الكبير نزار قباني.
مهما كانت كلماتي جميلة، ومهما أطربت من يقرأ في زمن الأمية المستفحلة، والتقنيات والبرمجيات التي ألغت متعة القراءة، فإنها تظل كلمات تنقلني من عالم واقعي أليم وحزين، إلى عالم خيالي يخدرني، وربما يغدر غيري، لفترة وجيزة من الوقت ثم نعود إلى مستنقعات الأحزان التي غرقنا فيها، بل التي أغرقونا بها وأرادوا أن تكون قبوراً وأجداثاً.
لاحظت الآن أنني أتحدث بلغة المفرد والجمع في آن واحد، وهذا ذكّرني بانتقاد وجهه إليَّ ابني عندما سألني: لماذا تكتب دائماً عن نفسك، ولماذا تسيطر عليك عقدة الـ«أنا»؟
أعترف أنني صدمت بالسؤال، وتريثت كثيراً قبل أن أجيب، ومع ذلك لم يقتنع بجوابي، لكنني الآن أجيب من دون انتظار اقتناع أو عدم اقتناع أي شخص مهما كانت هويته، فأنا أكتب بصيغة المفرد، وأخص نفسي بما أكتب، لأنني أظن أنني أعبر عن المجموع الذي هو الأغلبية العظمى من الشعب.
وعندما أقول: إنني لا أملك من متاع الدنيا إلا ما يكفيني يوماً واحداً، أعرف أنني أفضل بكثير من أناس لا يملكون ربع ما أملك، وعندما أصرخ ضد الظلم والاضطهاد والفساد والرشوة فإنني أصرخ بأفواه الملايين الذين لا يملكون مساحة صغيرة يكتبون أو يتحدثون أو يصرخون فيها، ويبدو أننا نحتاج إلى أكثر من «ساحة» هايد بارك كي نقول كلمة حق في وجه باطل يحاصر حياتنا ويكتم أنفاسنا، وجشع يخطف اللقمة من أفواه أطفالنا.
لا أظن أنني نرجسي الهوى، أو أنني أسعى إلى الشهرة والظهور تحت الأضواء، فأنا بطبعي أكره الأضواء المبهرة، وأحب الظلال التي تحتفظ بالأسرار، وتستر حكايات العشق، وأجمل شيء في حياة النشر على الأرض هو حكايات العشق وقصص الحب، فأنا أستخدم اللغة والكلمات للتعبير عن الحب من جهة، ولأعلن الثورة الحقيقية على كل من يستهين بمواطن لا ظهر له، ولا ذنب له إلا أنه وجد نفسه بلا لسان، وبأذنين كبيرتين أكثر من اللزوم وبكفين امتهنتا التصفيق بسبب ومن دون سبب!.
لا نملك إلا الكلمات، والكلام في المجتمعات المتقدمة والراقية، تعمر وتبني وتعلم الأجيال، وترسم دروباً من نور، ونحن لا تنقصنا الحضارة والرقي وفي بلدنا مشت حضارات أعطت الإنسانية عناصر التطور من الكلمة واللوحة والموسيقا والزراعة والصناعة وغيرها كثير، فلماذا نضطهد الكلمة وكل من امتهن الكتابة، وقبل أن يسجل اسمه في سجل «الشحادين» عن طيب خاطر، وترك للآخرين حرية إلغائه وكسر قلمه عندما ينتهي دوره؟!.
كلام للذي يقرأ ما بين السطور، والذي في الخفاء والعلن يدور! ولا أظن الصوت سيصل إلى أحد، أو كلماتنا ستجد من يسمعها، فنحن نجيد الكلام ولا نتقن فن الإصغاء!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن