اقتصاد

نبيل سكر يكتب عن «التشاركية»: هل نحن مستعدُّون لاعتماد التشاركية؟ وما العمل؟

لا يظن أحد أن مجرد إصدار القانون أو إصدار تعليماته التنفيذية، سيمكننا من بدء العمل به في اليوم التالي، فنحن لسنا مستعدين بعد لاعتماد التشاركية أو لتطبيقها. فما المطلوب في التشريع كما في التطبيق لاعتماد التشاركية.
بالنسبة للتشريع نعتقد بوجوب إجراء تعديلات في كل من قانون التشاركية وقانون التطوير العقاري والاستثمار العقاري، وبالنسبة لقانون التشاركية نعتقد بوجوب تعديل القانون وحصر نطاقه بمشروعات البنى التحتية والمرافق العامة إضافة للمناطق والمدن الاقتصادية الخاصة والعناقيد والمناطق الصناعية، تاركين المشروعات الربحية المشتركة، الصناعية والسياحية وغيرها، لتخضع لقوانين التجارة والشركات والعمل النافذة. أما بالنسبة للتشاركية في مشروعات السكن الاجتماعي وإعادة بناء المدن والتوسع العمراني فنقترح إخضاعها لقانون التطوير والاستثمار العقاري رقم 15 لعام 2008 بعد تعديله. كما نقترح أن يكون إقامة شركة خاصة بالمشروع إلزامياً وليس «في حال الضرورة» كما جاء في القانون، لأنه بذلك تتحدد مسؤوليات الجهات المختلفة في المشروع وتوزع المخاطر بينها ويسهل محاسبتها. وبالنسبة لحل المنازعات فنقترح أن ينص القانون على إقامة هيئة قضائية خاصة لحل النزاعات في تنفيذ المشروعات، تكون أحكامها مبرمة وغير قابلة للاستئناف كما جاء في بلاد أخرى مثل تشيلي.
وبالنسبة لقانون التطوير والاستثمار العقاري رقم 15 لعام 2008، نقترح توسيع أهداف القانون لتضم إضافة إلى السكن الاجتماعي، إعادة بناء المدن والتوسع العمراني وتوفير السكن المؤقت والدائم لاستيعاب المهجرين، وكذلك تطوير الإطار التنظيمي والمؤسساتي للقانون وتوسيع مهام هيئة التطوير والاستثمار العقاري باتجاه إعطائها الصلاحيات الواسعة وذلك في تحديد مناطق التطوير العقاري وتوفير الأراضي المعدة للبناء وصلاحية التعاقد، وقد يكون من المفيد نقل مرجعيتها إلى رئاسة مجلس الوزراء بدلاً من وزارة الإدارة المحلية.
أما في تطبيق قانوني التشاركية والتطوير والاستثمار العقاري، فنعتقد أن هناك عوامل عديدة يجب التعامل معها للتمكن من البدء بتطبيق التشاركية وتطبيق التشاركية في القانون بكفاءة وشفافية بعد تعديلهما. ومن أهم هذه العوامل تحسين بيئة الأعمال والاستثمار، وتأهيل وتقوية مؤسسات طرفي الشراكة، الدولة والقطاع الخاص، وتطوير القطاع المصرفي والقطاع المالي غير المصرفي، والتأكد من الشفافية وتكافؤ الفرص في تلزيم المشروعات.

تحسين بيئة الأعمال والاستثمار
لابد من تحسين بيئة الأعمال والاستثمار لجذب القطاع الخاص إلى مشروعات التشاركية، فإلى جانب ضرورة تحقيق الأمن والاستقرار وإزالة العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، هناك حاجة للتعامل مع تحديات عديدة لتحسين بيئة الأعمال والاستثمار وأهمها تثبيت هوية اقتصاد السوق بشكل رسمي من جديد واستكمال إقامة مؤسسات السوق، ولكن مع التأكيد على العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وتمكين المؤسسات والقدرات واعتماد قدر من القومية الاقتصادية بدلاً من تعميق التحرير التجاري. وحين تثبت هوية الاقتصاد يتبعها ثبات السياسات التجارية والمالية والنقدية.
إضافة إلى تقليص كلفة الأعمال والمطلوب هنا تقليص كلفة التبادل وتقليص البيروقراطية في معاملات الدولة، وتحسين الإدارة الضريبية. ويضاف إلى ذلك تقليص القيود على حرية انتقال الأموال نصوصاً وممارسة، وتحسين قرارات وإجراءات كل من حماية الملكية الفكرية وتسوية النزاعات بين الدولة والمستثمرين، وإرساء سيادة القانون، ورفع كفاءة القضاء ونزاهته في حل النزاعات.

إعادة تأهيل وتقوية مؤسسات الدولة
هناك حاجة لتقوية قدرات الدولة الإدارية والتخطيطية والتنفيذية، على مستوى المركز كما على المستوى المحلي، حتى تستطيع الدولة إعداد ملفات المشروعات وطرحها بكفاءة وشفافية ومن دون تمييز، وخاصة بعدما تعرضت مؤسسات الدولة بكل مستوياتها للتصدع خلال الأزمة وانفصلت بعض الإدارات المحلية عن المركز وتزايدت مظاهر اقتصاد الحرب.
ومن جهة أخرى، هناك مشكلة عدم خبرة الدولة في مثل هذه المشروعات وفي عقودها، وهذا يتطلب استثماراً كبيراً منها في تنمية المهارات في هذا المجال، بما فيه مهارات إعداد دراسة جدوى هذه المشروعات وتقييم مخاطرها وطرحها بشكل احترافي وشفاف، وصياغة عقودها، إضافة الى تنمية مهارات التفاوض مع الشريك الخاص. ولاشك أن هناك حاجة للاستعانة بخبرات عالمية في هذه المجالات.

تقوية وتطوير مؤسسات القطاع الخاص
تحتاج مشروعات البنى التحتية والمرافق العامة كما تحتاج مشروعات المدن السكنية والمدن الصناعية (وهي جميعها مشروعات عالية التكاليف، طويلة الأمد، وعالية المخاطر) لشركات مساهمة ولمستثمرين ومقاولين كبار، بقدرة فنية وإدارية وملاءة مالية عالية، مما هو غير متوافر في القطاع الخاص السوري في الوقت الحاضر. وقد كان القطاع الخاص في طور الإنعاش بعد الانفتاح الاقتصادي الذي تم قبل الأزمة، وعانى التصدع وهجرة الأموال والخبرات خلالها. وهذا يشكل فراغاً يفسح المجال للاحتكار المحلي أو الأجنبي للمشروعات، كما يفسح المجال لأمراء الحرب للدخول في هذه المشروعات على حساب الكفاءة في تنفيذها.
ومثلما على الدولة السعي لتحسين مناخ الاستثمار وبيئة الأعمال وتقوية مؤسساتها الإدارية والتنفيذية، على القطاع الخاص رفع قدراته الإدارية التنظيمية والمؤسساتية لإيجاد مؤسسات القطاع الخاص القادرة على القيام بهذه المشروعات، كما على القطاع الخاص التمتع بالشفافية والمسؤولية الاجتماعية وعدم التحالف مع الأقوياء في السلطة للفوز في مناقصات هذه المشروعات. وقد تجذب هذه المشروعات القطاع الخاص السوري المغترب الذي يمكن أن يجلب معه الخبرات الأجنبية والدعم المصرفي الخارجي، ما يساعد في سد الطريق على احتكار الأقوياء وأمراء الحرب على هذه المشروعات.

تطوير القطاع المصرفي والمالي غير المصرفي
لا يملك القطاع المصرفي السوري بشقيه العام والخاص في الوقت الحاضر القدرة المالية والعمق والتنوع لتمويل مثل هذه المشروعات. فمؤسساته مازالت تقتصر على المصارف التجارية التي تجذب الودائع وتمول المشروعات القصيرة الأجل، ويفتقر إلى المؤسسات المصرفية الاستثمارية والمؤسسات المالية غير المصرفية التي تقدم التمويل الطويل الأجل. لذلك ينبغي الإسراع بإقامة مؤسسات التمويل الطويل الأجل التي صدرت القوانين بخصوصها قبل الأزمة، مثل قانون مصارف الاستثمار، وقانون التمويل وإعادة التمويل العقاري، وقانون التأجير التمويلي. كما يجب النظر بإقامة صناديق تمويل خاصة بإعادة الإعمار، تسهم فيها الجهات المانحة وجهات القطاع الخاص الداخلية وربما الخارجية، وإقامة مصرف استثماري مختص بتمويل مشروعات التشاركية الطويلة الأجل.

الشفافية وتكافؤ الفرص في طرح المشروعات ومنح الحوافز
لا شك أن النص القانوني شيء وتنفيذ بنود القانون شيء آخر، وينبغي على الدولة السعي لإرساء مبادئ الشفافية والحكم الرشيد بالنسبة لطرح المشروعات ومنح الحوافز وتخصيص الأراضي، واختيار الشركات المنفذة، والإشراف على أعمالها. ومن ضمن ذلك ضمان عدم سيطرة الأقوياء والمتنفذين وأمراء الحرب على هذه المشروعات وضمان عدم تعاون المتنفذين في الدولة مع هؤلاء لغير المصلحة العامة، حيث إن تسلل الأقوياء وأمراء الحرب عديمي الخبرة بأموالهم إلى هذه المشروعات سيفشل هذه المشروعات، كما أن احتكار الأقوياء القدامى والجدد في القطاع الخاص لهذه المشروعات بالتعاون مع السلطة، سيكون على حساب سلامة التنفيذ والمصلحة العامة.

في المحصلة
إن مشاركة القطاع الخاص في إعادة بناء سورية وخاصة في إعادة بناء وتطوير بنيتها التحتية ومرافقها العامة وإعادة بناء مخزونها السكني وتجديد قدراتها الصناعية في ظل ندرة موارد الدولة وتعاظم وتعدد مسؤولياتها بعد الأزمة لم يعد خياراً أو قضية عقائدية، بل أصبح ضرورة وحاجة ملحة في مرحلة التعافي المبكر وإعادة الإعمار والتنمية المستقبلية. فسورية بأمس الحاجة أولاً للبناء والتطوير وللتعويض عن الخسائر التي تحملتها خلال الأزمة، وهي خسائر لا تقل عن إنجازات عشرين سنة من التنمية، وهي ثانياً بحاجة للتنمية والتطوير والعودة إلى السعي للحاق بالركب الاقتصادي العالمي الذي كانت متأخرة عنه أصلاً قبل الأزمة. وهي ثالثاً بحاجة للبحث عن حلول تكنوقراطية «داخل وخارج الصندوق» للتعامل مع الكارثة التي حلت بها.
ويشكل إصدار قانون التشاركية رقم 5 لعام 2016 خطوة مهمة لتشارك القطاعين العام والخاص في إعادة الإعمار وتعزيز عمليتي النمو والتنمية، لكن القانون أهمل التشاركية في مشروعات السكن الاجتماعي وإعادة بناء المدن والتوسع العمراني من جهة، ومشروعات المدن والمناطق والعناقيد الصناعية من جهة أخرى، بنفس الوقت الذي أدخل في نطاقه المشروعات الربحية الصناعية والسياحية وغيرها، وهي المشروعات التي لا تحتاج لقانون خاص ولا ينبغي تعريضها للإجراءات المعقدة واللازمة في المشروعات الكبيرة. وقد اقترحنا إخراج المشروعات الربحية كالمشروعات الصناعية والسياحية ومثيلاتها من قانون التشاركية لعدم حاجتها لقانون خاص، وإخضاع هذه المشروعات بدلاً من ذلك للقوانين النافذة كقوانين الشركات والتجارة والعمل والضرائب وغيرها. واقترحنا بنفس الوقت إدخال مشروعات المدن والمناطق والعناقيد الصناعية إلى القانون لحاجتها لقانون خاص مثلها مثل مشروعات البنى التحتية والمرافق العامة، نظراً لخصوصيتها وتعقيداتها ولعدم إقدام القطاع الخاص على المساهمة فيها من دون تحديد مسؤولية مخاطرها، ومنح الحوافز اللازمة له لتحقيق ربحية مقبولة فيها.
أما بالنسبة للتشاركية في مشروعات السكن الاجتماعي وإعادة بناء المدن والتوسع العمراني فقد اقترحنا تشميلها في قانون التطوير والاستثمار العقاري رقم 15 لعام 2008 نظراً لعدم صلاحية قانون التشاركية رقم 5 لعام 2016 لها، مع اقتراحنا تعديل قانون التطوير والاستثمار العقاري (الذي لم ينطلق حتى الآن) لإزالة العقبات المؤسساتية التي حالت دون انطلاقه، ولإضافة الأهداف الجديدة التي فرضتها الأزمة على أهداف القانون، واقتراح نماذج إسكان للتشاركية في هذه المشروعات.
ومن جهة أخرى هناك حاجة لتعزيز قدرات مؤسسات الدولة والقطاع الخاص وتطوير القطاع المصرفي والمالي غير المصرفي ليشمل مؤسسات التمويل الطويل الأجل ومؤسسات التمويل العقاري والتأجير التمويلي حتى يمكن تطبيق قانوني التشاركية والتطوير والاستثمار العقاري بعد تعديلهما بكفاءة وشفافية وبشكل يوفق بين مصالح جميع الأطراف.
ويعتقد أنه من الأفضل لمشروعات التشاركية على اختلاف أنواعها البدء بمشروعات صغيرة نسبياً والتوسع إلى المشروعات الكبيرة تدريجياً مع اكتساب الخبرة ومع عودة المزيد من المناطق الجغرافية إلى حضن الحكومة المركزية، ومع عودة رؤوس الأموال الخاصة، وبالتركيز في البداية على المشروعات التي تعيد ربط سورية جغرافياً واقتصادياً، والمشروعات التي تساعد على استيعاب اللاجئين والنازحين وإيوائهم.
وأخيراً، تجب الإشارة إلى أن اعتماد صيغة التشاركية لا يعني احتكار هذه الصيغة في إعادة بناء وتطوير البنى التحتية والمرافق العامة والمدن السكنية والصناعية السورية، فهناك عمل كبير في هذا المجال لكل من القطاعين منفردين وفي مختلف أنحاء البلاد، ولكن كلما تشارك القطاع الخاص مع العام في هذه المشروعات خفف هذا العبء على موارد الدولة المالية والبشرية، وخفف حاجة الدولة للاعتماد على المديونية الداخلية والخارجية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن