ثقافة وفن

ظواهر الاتساع وأثرها في ضبط القاعدة النحوية … د. سناء ناهض الريس: سعة اللغة العربية تأتت من خصائص وسمات جعلتها حيّة مطواعة.. بعيدة عن الجمود

| سوسن صيداوي

«إنّ كلام العرب لا يحيط به إلا نبيّ» هذه العبارة قالها قائل للدلالة على أن اللغة العربية واسعة، رحبة المذاهب، فسيحة السبل، فالعربية لغة عريقة، ضاربة في القدم، سايرت تاريخ أهلها الطويل، وشهدت نهضتهم وازدهار حضارتهم واختلاطهم بأمم الأرض، فلم تضق يوماً عن استيعاب مراميهم، أو تتقاصر عن الوفاء بأغراضهم. وسعة العربية إنما تأتت لها من خصائص وسمات كامنة فيها، جعلتها حيّة مطواعة، قادرة على التجدد، بعيدة عن الجمود. والبحث في طرف من هذه الخصائص هو موضوع هذه الدراسة التي عقدت لدراسة ظاهرة الاتساع في العربية من وجهة نظر النحويين، هذه الدراسة بقلم الدكتورة سناء ناهض الريس وحملت عنوان «ظواهر الاتساع وأثرها في ضبط القاعدة النحوية»، وصدرت بكتاب عن وزارة الثقافة/ الهيئة العامة السورية للكتاب.

أسباب البحث

الأسباب التي حدت بالدكتورة سناء الريس لاختيار هذا البحث، منها أن لظاهرة الاتساع أهمية كبرى، ففيها تتجلى شجاعة العربية التي تتيح للمتكلم بها ضروباً من التصرف والعدول عن الأصل، وتضعه أمام طائفة غير قليلة من الجوازات التي تعينه على صون لغته عن أن تظل حبيسة قوالب مألوفة مكررة، وقد تهدّى ابن جني إلى هذه الحقيقة فقال: «كلام العرب كثير الانحرافات، ولطيف المقاصد والجهات، وأعذب ما فيه تلفّته وتثنّيه». كما تضيف المؤلفة في مقدمة الكتاب «ولم تحظ هذه الظاهرة، على أهميتها، بدراسة دقيقة تقوم على تتبّع المفهوم وبيان المراد منه، والكشف عن مناهج العرب في التوسّع والتفسّح، والأعراض التي تدفعهم إلى سلوك هذا السبيل، والضوابط التي التزموها وراعوها عند تجوّزهم. ومنها: إن النحو العربي رُمي من قبل بعض الدارسين بالجمود وتسليط القواعد على اللغة ومستخدميها، وتغليب المعيارية على حرية المتكلم».

صعوبات البحث

الصعوبات التي اكتنفت البحث أبرزها غياب جد واضح للنُحاة للاتساع في كلامهم، فعلى كثرة دور هذا المصطلح ووفرة أمثلته لم يكد أحد منهم يضع تعريفاً جامعاً له، وإنما هي إشارات وشواهد متناثرة في الأبواب النحوية المختلفة، يجمع بينها سبب خفي، يتطلّب استجلاؤه استقراء النصوص وتتبّعها وضم النظائر لتبيّن المفهوم الذي صدروا عنه في وصف الكلام بأنه جار على التوسع، هذا وما أضافته المؤلفة في بحثها «وقد اقترن الاتساع في كلامهم بمصطلحات ذات دلالات عديدة، فهو تارة قرين المجاز، وتارة أخرى ضرب من الحذف والإيجاز والاختصار، وهو قرين الضرورة أحياناً، ووجه من وجوه الشذوذ في بعض المواضع. ومن ثم كان لابد من النظر في هذه المصطلحات، والبحث فيما يؤلف بينها ويجمعها تحت مسمّى الاتساع. فالاتساع مسمّى عام تندرج فيه ظواهر لغوية عديدة كالحذف والمجاز، والزيادة، والحمل، والتعاقب، والتقديم والتأخير، ولكل مما سلف صور لا تكاد تحصي كثرة، منها المطرد المقيس، ومنها الكثير، ومنها المختص بالضرورة أو الشذوذ. لهذا عمدت الدراسة إلى جمع النصوص النحوية المتصلة بهذه الظاهرة من مصنفات أصحابها وتحليلها، وتتبّعت نشأة المصطلح منذ ظهوره في كلام المتقدمين وانتهاء بالمتأخرين الذين لم يخرجوا عما اختطه الأئمة في هذا الباب إلا في القليل، واستخلصت من كلامهم الظواهر اللغوية التي تؤول إلى باب الاتساع، وبحثت في أغراضها معرّجة على كلام البلاغيين الذين أبانوا فيه عمّا يكتسبه الكلام من مزية وفضل بالعدول به عن أصله، وإخراجه عن مقتضى الظاهر، وتناولت ضوابط الاتساع المبثوثة في كلامهم، وسعت إلى تلمّس أثره في بناء القاعدة النحوية».

أبواب البحث

طبيعة البحث الذي قدمته الدكتورة سناء ناهض الريس اقتضت أن يُجعل في بابين، أفرد أولهما لدراسة مفهوم الاتساع وأغراضه وضوابطه، وخلُص الثاني لظواهر الاتساع وأثرها في بناء القاعدة النحوية.
بني الباب الأول على فصلين، تناولت المؤلفة في الفصل الأول مفهوم الاتساع من وجهة نظر النحويين، حيث اعتبرت أن له مدلولين «فقد يعنون به ضرباً من العدول عن الأصل يقوم على التجوز والمسامحة، استباحته العرب في مواضع من كلامها رغبة منها في أن توسع سبل القول وطرائق التعبير عن معانيها، وعلى هذا المفهوم اقتصر سيبويه والمتقدمون من النُحاة حتى نهاية القرن الثالث. وقد يقصد به ما تتسم به بعض الألفاظ والتراكيب من سعة في التصرف، تتأتى لها تبعاً لاعتبارات، أبرزها أصالتها في بابها وكثرة استعمالها، وهذا المفهوم ظهر في كلامهم في القرن الرابع، إلى جانب المفهوم السابق. أما في الفصل الثاني فبني على مبحثين، تناول الأول أغراض الاتساع، وهي أغراض لفظية تتمثل في السعي لتكثير اللغة تارة، وطلب الإيجاز والاختصار تارة أخرى، وأغراض معنوية أبرزها إظهار المبالغة والتعبير عن العناية والاهتمام. متناولاً ضوابط الاتساع العامة التي تشترك فيها ظواهره جميعا، فبيّن أن العرب لا تجنح إلى الاتساع إلا إذا أمنت اللبس، وأنها منعت الاتساع في غير المتمكن، ولم تحز في كلامها الجمع بين اتساعين».
أما الباب الثاني من هذه الدراسة فجاء شاملاً لأبرز ظواهر الاتساع، حيث جعلت المؤلفة ذلك في خمسة فصول، حرصت في أثنائها على بيان صلة ما كانت تعرض له بالاتساع ووجه خروجه عن الأصل، معتمدة في ذلك على أقوال النحويين، باسطة القول في جانب واسع من الصور المختلفة لهذه الظواهر الاتساعية، مميزة، ما أمكن، منها في الاستعمال وإنقاص واقتصرت الشذوذ، وبينت في خاتمة كل فصل الضوابط الخاصة التي تقيد بها الظاهرة الاتساعية التي عرضت لها فيه. وأتبعت الفصول الخمسة بسادس تلمست فيه أثر ظواهر الاتساع في بناء القاعدة النحوية، والذي هو منوط بمدى ما اكتسبته نماذج الاتساع من اطراد، رقي الاستعمال بطرف منها إلى منزلة المقيس، فأُلحق بالقاعدة النحوية وصار جزءاً من بنيانها، أما فيما اختصّ بلغة الشعر من صور الاتساع فقد أقيم عليه باب الضرائر، في حين استُبعدت النماذج التي وقعت في الاختيار ولم تعضد بسماع واسع من بناء القاعدة واكتفى النُحاة بالنص عليها، مع التنبيه على أنها من الشاذ الذي يُحفظ ولا يقاس عليه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن