ثقافة وفن

الأسرة الكبيرة في رمضان…اجتماع.. وفرصة للمحبة والتواصل والقوة

 إيمان أبو زينة : 

حين كنت صغيرة كان يلفت انتباهي ذلك البيت الكبير الواسع المجاور لبيتنا والذي كان بالنسبة لي بيت الأسرار والحكايات والجنيّات المخبأة خلف جدرانه، كما قصص الأطفال التي كانت ترويها لنا أمي في بعض الأحيان.
وحين كبرت، عرفت أن ذلك البيت كان رمز الصورة الأبدية لجمال اجتماع الأسرة الكبيرة وامتدادها وترابطها، والذي ظل حلما لم يتحقق في حياتنا كعائلة شردها التهجير، وشردتها النكبة والرحيل.
كان كل شيء يحدث في ذلك البيت يعني الحفاظ على العادات والتقاليد الأسرية التي ربتهم عليها الجدة الكبرى التي جمعت أولادها وأحفادها في غرف البيت الكبير.
كان ذلك واحداً من بيوت دمشق التي تربت على اجتماع أسر وعائلات تتكون من عدة أجيال يعيشون معا، لكن رمضان في تلك البيوت كان له طعم آخر ونكهة مختلفة خاصة عند ساعة الإفطار والاجتماع على مائدة واحدة.

التهيؤ لاستقبال رمضان
الجدة أم هيثم/88/ عاماً تقول: تتألف أسرتي من خمسة أولاد وثلاث بنات، وقد زوجت أولادي في حياتي ولم أرد أن يعيشوا بعيداً عني لذلك هيأت البيت ليكون لكل ولد غرفته الخاصة بعد الزواج. أنا أعرف أن الحياة اليوم صارت أصعب بكثير مما كنا نعيش به، لكن لمة العائلة في بيتي قانون لا نقاش فيه بالنسبة لي وخاصة في شهر رمضان الكريم الذي تبدأ استعداداته قبل شهر من قدومه. وحين سألتها عن كيفية التفاهم بين زوجات الإخوة وخلافات الأحفاد والمشاكل التي قد تحدث نتيجة العدد الكبير وضغط التحضيرات للإفطار في المطبخ أجابت مبتسمة: كان زوجي رحمه اللـه يقول إني أصلح أن أكون قائدة عسكرية، لكن حقيقة الأمر أساسها النظام الذي ربتني أمي عليه فربيت أولادي على قوانينه، فكل شيء يجب أن يبنى على أساس تحمل المسؤولية منذ الصغر، وقد علمت الجميع تقاسم عبء العمل فيما بينهم، وتوزيع التقسيم بشكل عادل، وكان زوجي هو الذي يفصل في النزاعات، لكني توليت الأمر بعده بنفس الحكمة والمقدرة.
السيدة «خيرية» /48/ عاماً ربة بيت وزوجة الابن الأوسط قالت: أتيت من بيت يضم عائلة كبيرة أيضا، وحين تزوجت كنت صغيرة السن فكانت أوامر عمي وحماتي تسري على الجميع في العيش المشترك وتقبل الأوامر والطاعة، ورغم أن البعض قد يستغرب ذلك، إلا أننا نعيش تحت سقف واحد وبتفاهم كبير حيث نتوزع أدوار الطبخ، والتنظيف، والاعتناء بالأولاد، أما في رمضان فالجميع يقوم بدوره حسب توزيع العمل، إلا أن الأمر لا يخلو بالتأكيد من بعض النزاعات والغضب بين الحين والآخر.
الطفل «داني» /8/ سنوات قال: أنا أحب شهر رمضان وأشترك مع أبناء عمومي في تزيين البيت لاستقبال رمضان، وأتنافس معهم للحصول على مكافأة العيد التي تعطينا إياها جدتي لمن يحفظ أكبر عدد من آيات القرآن في هذا الشهر.
تقول الباحثة الاجتماعية السيدة «ابتسام»: إن الشعور بالانتماء الذي يتولد عند العائلة الكبيرة التي تعيش في بيت واحد غالبًا ما يشكل شبكة دعم مهمة للكبار حيث يمنح اسم العائلة ومكانتها الأمان النفسي والعاطفي، وأما الصغار فإنهم سيعيشون كما عاش آباؤهم وسيشعرون بالمسؤولية تجاه بعضهم في أكثر المناسبات ولاسيما رمضان والعيد، وعلى الرغم من تفضيل بعض الأسر تزويج بناتها من أحد الأقارب للمحافظة على التقاليد الاجتماعية وسلطة الأهل وبقاء الثروة داخل الأسرة الكبيرة نفسها، إلا أن التغييرات التي حدثت خلال العقود الأخيرة خففت من وجود الأسرة الكبيرة فتوزعت إلى أسر عديدة لكن مع الحفاظ على الترابط العائلي. السلطة الأبوية لم تعد مطلقة، وأما مكانة المرأة فقد تغيرت حيث أصبح دورها أساسيا في بناء الأسرة، وأصبحت امرأة عاملة وفعالة كما دور الرجل، وصار عدد الأولاد أقل بسبب الظروف الاقتصادية.
ثم أضافت: رغم جمالية العائلة الكبيرة وتضافرها عند حدوث أي طارئ، إلا أن هناك بعض السلبيات التي لابد من ذكرها عن هذه العائلة كي نكون منصفين وأهمها عدم قدرة الوالدين على تنشئة أولادهم بشكل قوي بسبب تدخل الأهل الأكبر سنا، كذلك التفرقة بين دور الرجل والمرأة بسبب الدور السلطوي للرجل، ولا ننسى زيادة العبء الاقتصادي على رب الأسرة الكبيرة حيث تكون المصاريف مضاعفة.
السيد «مازن» /60/ عاماً رب أسرة يعمل في مجال التجارة ويسكن معه في بيته ولديه وزوجاتهم، قال: مائدة الإفطار في رمضان حين تجمعني مع أولادي كفيلة بأن تعزز العلاقات الطيبة بيننا جميعا، ورغم أننا نعيش معا طوال العام إلا إن صلة الرحم في هذا الشهر تقوي أواصر الأسرة الكبيرة، فقد حَثَّ الدين على ذلك من خلال تبادل الزيارات مع الأهل والأقارب لما له من خصوصية في الحفاظ على العادات والتقاليد والقيم الإسلامية الأصيلة.
وأكد «عبد الله» /65/ عاماً ويعمل تاجرا في سوق البزورية أن وجبة الإفطار في شهر رمضان بين أفراد الأسرة الكبيرة تميز هذا الشهر حيث اجتماع الأجيال هو من أهم وسائل توطيد وتعزيز العلاقات الأسرية، وهو الفرصة المؤكدة لتعميق المحبة والألفة حيث الاجتماع على مائدة الإفطار وقضاء السهرات يعلم الأولاد الذين أبعدتهم ظروف عملهم عن محيط الأسرة والأهل، لذلك فإن رمضان يجمعهم، ويوفر لهم التواصل وتعزيز العلاقات وتقويتها.
في إحدى المدارس التي تضم مجموعة من المهجرين عن بيوتهم وقراهم التقيت بعائلة صغيرة تقوم بتحضير الطعام، وكانت بداية الحديث مع شابة في الثلاثين من عمرها تحمل بيدها طفلة رضيعة هي ابنة أختها التي نجاها الموت بعد أن فقدت أبويها وأخيها في الأحداث الأخيرة في محافظة الرقة، وهي تعيش اليوم مع والدتها وعمتها مع هذه الطفلة حيث يحاولون تعويض حزنهم بالتآلف ونسيان أوجاع التهجير واليتم في هذا الشهر الفضيل.
الطفلة «حنين» /12/ عاماً تعيش مع أخيها وجدتها قالت: أنا من حمص، وكنت أعيش مع أسرتي المؤلفة من خمسة أشخاص في بيت جميل قريب من مدرستي، وفي أحد الأيام سمعنا صوت القذائف من مكان قريب فركضنا جميعاً لكن صوت القذيفة التي قصفت بيتنا لايمكن أن أنساه، وفي النهاية لم أجد من عائلتي إلا أخي الصغير حيث أخذتنا جدتي ورحلنا إلى دمشق، وهذا ثاني رمضان يمر علينا دون عائلتي وأمي التي كانت تزين لنا البيت وتعد لنا أطيب أنواع الطعام.
الجرح كبير والأيام تمر دون رحمة على هؤلاء الأيتام الذين يغلف الحزن والفراق حياتهم، والذين عاشوا آلام التهجير وعاشوا مراراته وما تزال ذاكرتهم تحمل صور القصف والتدمير، والمحن المؤلمة على نفوسهم وقلوبهم، لكن الحياة تستمر خاصة مع وجود أهل الخير، والجمعيات والمؤسسات التي لاتتوانى عن تقديم الرعاية الصحية والنفسية والمادية لهم.
الأستاذ «خالد» /52/ عاماً مسؤول في إحدى الجمعيات الخيرية المختصة برعاية المهجرين والأيتام قال: هناك أكثر من سبعين عائلة مهجرة، وأكثر من ستين طفلا يتيما في هذه المدرسة، ونحن كجمعية خيرية نحاول رعايتهم من خلال التبرعات والكفالات المالية التي تقدم للأيتام مباشرة، أو الكفالات التي تقدم للمهجرين في المحافظات الآمنة، كذلك نحاول توفير الإيواء والرعاية على مدار اليوم خاصة في شهر رمضان حيث إن الكثير منهم فقد عائلته بالكامل لذلك نحاول إدخال اليتيم مع عائلة تساعده على الاندماج والتعافي.
سيظل رمضان هو الشهر الكريم الذي يجمع العائلة على سفرة واحدة رغم قلة الدخل والمعاناة من الحياة الاقتصادية، وسيظل وجود كبار العائلة في الأسرة في ظل الروحانيات الدينية والاجتماعية رغم عدم تواصل الكثير من الأبناء المعاصرين مع أفراد العائلة واستبدالهم السهر في المطاعم والقهاوي الشعبية محل مجالس الأسرة، وغياب مفاهيم كثيرة في الأسرة المعاصرة في ظل الغزو الثقافي الذي دمر الروح الأسرية والروابط الاجتماعية، إلا أن رمضان سيظل الممثل الأهم للوحدة الاجتماعية للحفاظ على استقرار الأسرة الكبيرة، وحتى الصغيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن