ثقافة وفن

تكريم متواضع في الثقافي العربي لأيقونة سورية عظيمة … ملكة أبيض لـ«الوطن»: أقول لسورية نحن نحبك وندين لك.. لأنها منحتنا الدراسة المجانية والكثير من الخدمات.. فسورية رائدها المواطن

| سوسن صيداوي

على اختلاف الحضارات وعلى اختلاف الأزمان، كانت وما زالت المرأة هي من أعمدة الحضارة الأساسية، فمن دونها يختل التوازن، فكيف لا وهي قادرة على أن تهزّ السرير بيمينها والعالم بأسره بيسارها، مهما كانت صفة المرأة انطلاقا من الأمومة والتربية في المنزل، ووصولا إلى كل مجالات الحياة. فمن الجهل إقصاؤها بعيداً، والمحاولات الداعية إلى التجاهل والمبطنة بالرحمة، كلّها دعوات تُخفي وراء ستارها، السعي إلى طمس تكوين خلقه اللـه كي يكون نصف المجتمع. ولتأكيد أن سورية هي الحضارة، وتاء التأنيث من الكلمة، رسالة لا يمكن إغفالها، بأنّ المرأة هي حضارة منذ بدء الوجود، وفي ظل صراعات وتحديات مؤلمة نقف بمواجهتها، وتسعى كي تمزق وتشوّه كل ما هو في الفكر والخلق جميل، ولكن ولضرورة البقاء وأهميته ولأننا مازلنا سوريين، نلملم جراحنا ونتمسك بمؤسسي ثقافتنا المعاصرين، كي يقدموا لنا الأمل والدعم والفكر المتحدي، لأنهم قدموا رسالتهم العريقة وعلينا أن نحمل نحن أيضاً الرسالة وننطلق دائماً إلى البناء، من حملة الرسالة الثقافية والتربوية والإنسانية، الدكتورة ملكة أبيض التي تمّ تكريمها بحضور متواضع خلا من أي حضور من جانب وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب واقتصر الحضور على الأصدقاء وبعض الكتاب والشعراء، ولم يتجاوز الثلاثين شخصاً، وذلك في المركز الثقافي في أبو رمانة، برعاية وزارة الثقافة، مديرية الثقافة بدمشق، حيث أقيمت ندوة تكريمية بعنوان «سيدة من أيقونات سورية»، وتمّ عرض فيلم عن حياتها، شارك فيها الدكتور علي القيم والباحث محمد مروان مراد وإدارة الندوة من إلهام سلطان.

سطور من سيرة
نشأت ملكة أبيض في بيت ثقافي في حلب، وكانت واحدة من تسع بنات لأب منفتح الذهن يتقن اللغات، لكن هذا لم يمنع عنه الضغوط التي تعرضت لها الأسرة لمنعها من إتمام الدراسة والتفوق والحصول على منحة للدراسة الثانوية، ولكن وبسبب مشاركاتها في المظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي، قامت إدارة المدرسة بحجب المنحة، الأمر الذي اضطرها للعمل في التطريز والخياطة والدروس الخصوصية لإتمام الدراسة والحصول على البكالوريا، بعدها أُوفدَت في بعثة إلى بروكسل، لتدرس اختصاصين في وقت واحد التدبير المنزلي والعلوم التربوية والنفسية، وفي إجازة العطلة الصيفية للسنة الثالثة جمعها القدر برفيق درب عمرها، بالشاعر سليمان العيسى في حلب وكان الاتفاق أن يتم الزواج بعد التخرج في الجامعة، وتخرَجت في جامعة بروكسل الحرة حاملة الإجازة في العلوم التربوية، ثم نالت الماجستير من الجامعة الأميركية ببيروت، والدكتوراه في تاريخ التربية من جامعة ليون الثانية بفرنسا، من مؤلفاتها ومترجماتها: الشقاء في خطر، الجثة المطوقة والأجداد يزدادون ضراوة، نجمة، تسع قصص، التربية والثقافة العربية الإسلامية في الشام والجزيرة، التربية، تاريخ التربية وعلم النفس عند العرب، علم الاجتماع التربوي، الثقافة وقيم الشباب، طريقة مونتسوري للأم والمعلمة في تربية الطفولة المبكرة، مجموعات من القصص والمسرحيات للأطفال بالاشتراك مع سليمان العيسى. والجدير بالذكر أنها عملت مدرسة جامعية في سورية واليمن، وعضو جمعية البحوث والدراسات.

من الندوة
تخلل الندوة كلمات في الدكتورة ملكة أبيض، وعرض فيلم عن حياتها، إضافة إلى بعض المداخلات، وتحدثت إلهام سلطان التي قامت بإدارة هذا التكريم، عن أهمية التكريم سواء للشخص الذي يتم تكريمه، أم للبلد التي تقوم بتكريم مبدعيها، وخاصة في ظرف مثل هذا الظرف الذي نعيشه، قائلة: «الأمم العظيمة هي من تقوم بتكريم مبدعيها وخاصة أنّ التكريم هو لسيدة سورية متميزة وأيقونة من أيقونات سورية وهي الدكتورة ملكة أبيض، ومن الجميل جداً أن نكرم مبدعينا، وخاصة في مثل هذه الظروف التي تمر بها سورية، لأننا في هذا الظرف نقول: صوت الكلمة هو أقوى من صوت الرصاص، وثقافتنا هي أقوى من صوت إرهابهم، وعندما نكرم المبدعين نحن نكرم الوطن، لأنهم تاريخ وهم عنوان حضارة وعنوان ثقافة، والسوريون هم أصحاب الحضارة والفكر والثقافة، من خلال هذه الرموز التي تعيش وتنتمي إلى كل شبر من المساحة السورية. وبالطبع الدكتورة ملكة أبيض تاريخ للمرأة السورية، فهي صاحبة قلم، إضافة إلى كونها زوجة الشاعر الراحل سليمان العيسى الذي كان دائماً يقول أهدي نصف إبداعي لزوجتي ملكة أبيض، ومنذ أن حصلت على الدكتوراه في بداية الخمسينيات، هذا بحد ذاته فخر لسورية كلها».
على حين تحدث الدكتور علي القيم عن نشاط الدكتورة ملكة أبيض سواء في التأليف أم الترجمة وفي التدريس مضيفاً «التكريم هو جزء من شخصية الإنسان وهدف وغاية سامية، وعندما نكرم قامة إعلامية وثقافية وتربوية مثل الدكتورة ملكة أبيض العيسى، فهو تكريم لمرحلة عطاء لأكثر من ستين عاماً، وملكة أبيض هي دائماً متجددة في الفكر والأدب والتربية المقارنة، وهي بالطبع أستاذة بالتربية المقارنة في كثير من الجامعات العربية، وهي رفيقة درب شاعر العروبة والطفولة سليمان العيسى، وشهادتي قد تكون مجروحة لأنه لدي كتاب مشترك بيني وبينها من سبع مئة وعشرين صفحة عن شاعر العروبة سليمان العيسى، وبالتالي هي كانت تنشر مقالاتها في كبريات الصحف والمجلات الثقافية والتربوية في سورية والوطن العربي، وهي محاضرة وشاركت في الكثير من المؤتمرات والندوات، وتركت بصمة في مجال التربية وفي تنمية الجيل ونشر الوعي الثقافي والفكري لدى الأجيال الواعدة، وهذا التكريم المتواضع ما هو إلا تعبير عن مدى محبتنا لهذه الإنسانة الصادقة والأديبة التي قدمت كثيراً للمكتبة العربية، وما زال جهدها مستمرا في إغناء الثقافة بكل ما هو معاصر وحضاري».

الملكة والتكريم
عبرت الدكتورة ملكة أبيض عن سعادتها لهذه اللفتة، التي أشعرتها بالكثير من الارتياح والاعتزاز، وخصوصاً أنها تعشق سورية وترفض مغادرتها في وقت ضعفها، على الرغم من أن الظروف الأسرية والواقعية تبيح لها السفر للعيش مع أبنائها، إلا أنها ترفض وتطمئن في حضن سوريتها معانقة ذكريات وكلمات وصور لماض عريق يُكرّم اليوم كأيقونة سورية وتقول «أنا في الحقيقة لم أكن أعرف أن هناك أشخاصاً نبلاء ومهتمين بالثقافة وأنهم يريدون تكريمي، وعندما حدثت هذه المبادرة شعرت بالارتياح والاعتزاز، لأن شعبنا لا يزال يعمل وينشط في جميع المجالات وفي جميع الميادين، ورأيت وللمرة الأولى في حياتي أن أعرض فيها نشاطي في مجال التأليف وفي مجال الترجمة، وفي مجال كتب الأطفال وفي مجال التعريف بأدب سليمان العيسى، وطبعا هذا ليس كل ما عملت فيه، إضافة إلى ما ذكرت هناك كتب الأطفال حيث عدت من اليمن- صنعاء ومعي خمسون قصة للأطفال، هذا باستثناء الأشياء التي طُبعت قبل عودتي أو بعدها، ولكنني قدمت هنا نماذج من المسرحيات والقصص».

ملكة وسليمان
الكلمات والأحرف، المفاهيم والمعاني، القيم والقضايا، كلها اجتمعت مع الأيام ويداً بيد مع القدر، كي تضم إليها شخصين هما المحرك الأساسي والباعث للمشاعر والفكر. وكما أسلفنا الذكر، التقى الشاعر سليمان العيسى الدكتورة ملكة أبيض في حلب، في بيت أهلها وتمّ الاتفاق على الزواج بعد تخرجها في الجامعة، وهذا ما كان. والأيقونة السورية ملكة تتحدث عن اتحاد الفكر والكلمة بينها وبين الشاعر قائلة: «ما جمعني أنا وسليمان العيسى هو أدب الأطفال، فكلانا يعمل في التربية، هذا الاهتمام دفعنا للتفكير بهذا الأدب في بلادنا، وبحكم علاقتي باللغات الأجنبية وباعتباري درست ما بين بروكسل وما بين فرنسا والجامعة الأميركية، كنت ميالة للمطالعة ولأدب الأطفال، وكنت أطوف في المراكز الثقافية، بحكم سفري كنت أجمع الكتب وأقرأ، وأنتقي منها وأقوم بترجمتها، على حين كان سليمان العيسى يحب أن يضيف من خلال أناشيد الأطفال، باعتبار أناشيد الأطفال قريبة جداً للطفولة ومن خلال النشيد كان يرفع من مستوى القصة ويزيد من الجاذب الذي يدفع الأطفال لقراءتها، وهكذا كان». كما أضافت: «لا أستطيع أن أقول ماذا أضفت أنا للشاعر سليمان العيسى، ولكنني أحب أن أقول ماذا أضاف لي الشاعر سليمان العيسى، حيث أضاف لي الكثير، عندما أعلنا خطبتنا كنت طالبة ونبّهني منذ البداية أنه علينا مهام وواجبات، وهذا أمر طبيعي لأنه من أبناء لواء الاسكندرون، وكانوا قاسوا وعانوا سلخ اللواء، لذلك تكوّن لديهم نوع من النضج سواء الفكري أم السياسي والنضالي، وهذه الأشياء جعلتني أفكر بأن أتخذ موقفاً، وبأنني لا أكتب ولا أترجم إلا بعد أن أقوم بدراسته من زاوية موقفي أنا، فمثلا أهتم بالوطن العربي، فدرست تاريخ التربية في الوطن العربي، إذاً هذا الموقف انتبهت له منذ بداية نشاطي الثقافي، وفي الحقيقة هذا بفضل سليمان العيسى»

ثقافة الغرب والشرق
عن صراع الثقافات واختلاف القيم والمثل والأخلاق بين الشرق والغرب، والخطر الذي نعانيه من الانجراف بالتمثّل بالآخر رغم تعارضه مع ما لدينا من محتوى فكري وثقافي وخاصة في القضايا التي تتعلق بالتربية والعلاقة مع الطفولة، تحدثت الدكتورة ملكة بحكم ترجمتها للعديد من الكتب قائلة: «بحكم اطلاعي على الثقافة الغربية من خلال الترجمة وقراءة الكتب، هناك فرق كبير بينها وبيننا في التعاطي مع الطفل وهذا أمر أخذناه في الحسبان، وكنا نختار ما بين خمسين كتاباً أربعة أو خمسة كتب، لأن القيم التي ينشأ عليها أطفالنا والتي نريد أن نزرعها فيهم، تختلف عن الطفل المعاصر في أوروبا أو في أميركا، والتي نراها اليوم في التلفزيونات أو في السينما، لذلك الاختيار كان ضرورياً، وأنا اليوم أميل للعمل في قصص الفتيان، فمشكلة الفتيان ومشكلة المراهقة حساسة جداً في مجتمعنا المعاصر، وأعاني هذه المشكلة، لأن وجهة النظر تختلف والقيم تختلف، وحتما أقرأ الكثير من الكتب كي أتمكن في النهاية من اختيار كتاب أو اثنين، وبالطبع هذا الاختلاف واقع بشكل طبيعي، وخاصة أن البلاد تمر بأوضاع مأساوية كارثية، ويعاني منها الأطفال كما يعاني منها الكبار، ونحن، وأقصد أنا وسليمان العيسى، لحظنا هذا الاختلاف، وأثناء كتاباتنا كنا دائماً نحاول أن نأخذ بالحسبان بأن هؤلاء الأطفال يعانون ويجب الانتباه لهم».

للمترجم موقف
لطالما كانت الترجمة جسر عبور بين الثقافات العالمية، وعبر هذه الوسيلة يمكن الاطلاع على كل النتاج البشري سواء أكان الفكري أم العلمي، وحتى الفن بأنواعه، ولكن ليست الترجمة كعمل أو مهنة بالمهن السهلة، وعلى من يريد أن ينجح، يجب أن يكون له أسلوبه فيها، كي تصل في النهاية كلمته إلى أكبر شريحة ممكنة من القرّاء، وحول الترجمة تحدثت الدكتورة ملكة وهي من لها فيها باع طويل: «عملت في الترجمة طوال حياتي ولفترات طويلة، ولدي نتاج كمي ونتاج كيفي، وذلك لأن في الترجمة معضلة كبيرة، وهي هل نترجم حرفيا أو نترجم المعاني، ويجب على أي مترجم أن يتخذ موقفا، وأنا في الحقيقة اتخذت موقف الأمانة للمعنى، فأنا أقرأ الجملة بدقة وأستوعبها وبعد ذلك أحاول أن أعيد التعبير، ولكن بلغتي وبأسلوبي وبشكل يناسب جمهور القرّاء سواء أكانوا من الأطفال أم الجامعيين أو أي فئة كانت، لذلك لدي ترجمات علمية والدقة أساسية فيها، وضمن فلسفتي لهذا الموضوع يجب أن نكون أمينين على الكلمة والمعنى، لأنه عندما تختلف اللغة يختلف معها المعنى في اللغة الأخرى، وفي الترجمة يجب علينا أن نصل إلى المضمون والمفهوم في آن معاً».

من ملكة لسورية
النجاح له متطلباته وعلى المرأة على الخصوص أن تسعى دائماً مهما كانت صفتها في المجتمع أن تنجح بما هو متاح لديها وهي ترغب فيه، وهذا أمر يتطلب منها أن تكون دائماً مصممة على النجاح وعلى الاجتهاد وتحدي الظروف مهما كانت، هذا ما أشارت إليه الدكتورة ملكة أبيض موجهة رسالة إلى المرأة السورية بالتحديد، قائلة «أقول للمرأة السورية كل تقدّمها وكل احترام لمكانتها في المجتمع يتوقف عليها بمقدار ما تصمم، فأنا مثلا نشأت في مجتمع لا يرغب في أن تكمل المرأة تعلّمها، وأمام تصميمي المجتمع أذعن، وأهلي كانوا منفتحين، ولكن أمام ضغط المجتمع وقفوا في وجهي، ولكن تصميمي ونجاحي في العمل الذي أقوم به هو الذي فرض، إذا علينا عند المضي بالنجاح أن نفي بمتطلباته، وأقول لسورية نحن نحبك يا سورية وندين لك، وبأنني محظوطة لأنني ولدت في بلد منحني الدراسة المجانية منذ كنت في المرحلة الإعدادية، وحتى أولادي حصلوا على الكثير من الخدمات، وسورية قدمت الكثير من الخدمات لأنها ودائما رائدها المواطن».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن