ثقافة وفن

هي دمشق وهو بردى وبينهما تكمن أسرار الحياة

| شمس الدين العجلاني

لم يعرف التاريخ عاصمة كتب عنها كما كتب عن دمشق، ولم تحظ العواصم باهتمام المعماريين والبنائين والفنانين والأدباء والشعراء كما حظيت دمشق، ولم تنظم أجلُّ القصائد إلا لها، أقدم عاصمة استمرت مأهولة عبر التاريخ.
كتب المؤرخون عن دمشق، وعراقتها وقدمها، فأحصوا لها أكثر من عشرين اسماً، وأكثر من خمسة عشر اسماً لملوك وقادة.. قيل إنهم أول من بناها. وتحدث علماء الآثار عن طريقة بنائها، ومكانها الأول، وعدد الأعمدة فيها، وعن سورها وعدد الأبواب التي تحيط بها. وقد تأكد أن استمرارية المدينة لم تكن لولا وجود المياه فيها، التي ثبت أنها من أعذب مياه العالم، وأكثرها نقاءً وبرودة، بل إن هذه المياه ظلت عبر السنين، العروة الوثقى التي تربط بين قلوب ساكنيها، وكلمة السحر التي تشد قلوب الزائرين إليها. ومن أهم مصادر المياه في دمشق نهر بردى.
لقد أدرك الإنسان القديم في دمشق أهمية (المياه)، فاعتبرها أثمن ما في الكون من كنوز ثمينة وثروات طبيعية. وأقام حولها المدن والحضارات، وأنشأ المعابد لأرباب المياه، وجعل لها طقوساً وعبادات خاصة بها..
وبردى هو أهم كنوز دمشق منذ آلاف السنيين، وهو عامل مؤثر في حضارة المدينة منذ خطت اسمها على صفحات التاريخ..
وبردى منذ ذاك الزمان الغابر تبوأ مكان الصدارة في العبادات والطقوس، وفي غزل ومدح الشعراء والأدباء والفلاسفة..

بردى
ينبع نهر بردى من منطقة الزبداني من قرية موغلة في التاريخ اندثرت كان اسمها (قنوا)، ويتجه في مساره من الغرب إلى الشرق ويبلغ طوله من منبعه إلى مصبه 65 كم، وبعرض يتراوح بين (5 إلى 15) متراً، يسير في سهل الزبداني إلى أن يمر بوادي بردى، حيث ينضم إليه عند قرية الفيجة نبع تاريخي أسطوري تدور حوله قصص وحكايا كثيرة، هو نبع عين الفيجة الذي يزيد من غزارته، ثم يتابع سيره، وعلى مشارف دمشق تتفرع عن بردى ست أقنية أو فروع هو سابعها وتتجه جميعها نحو الغوطة، لينتهي به المقام صاباً في بحيرة العتيبة، ماراً بنحو (13) بلدة، ويقول عنه ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان: «أعظم نهر في دمشق، مخرجه من قرية يقال لها قنوا من كورة الزبداني على خمسة فراسخ من دمشق مما يلي بعلبك، يظهر الماء من عيون هناك، ثم يصب إلى قرية تعرف بالفيجة على فرسخين من دمشق».

أسماء بردى
اتخذ بردى عبر العصور عدة أسماء، وتشير أغلبية المصادر التاريخية أن أول ذكر له في التاريخ كان في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وكان اسمه نهر (أبانة) وكذلك ورد بنفس الاسم في الكتاب المقدس في سفر الملوك الرابع، وكلمة (أبانة) تعني الصخور المتشققة التي تفجرت منها المياه، وبنفس الاسم أيضاً ورد اسمه في إنجيل لوثر، ومؤرخ دمشق ابن عساكر في تأريخه لدمشق، يذكر أن نهر بردى كان يعرف قديماً باسم نهر (باراديوس)، بمعنى نهر الفردوس، وأطلق عليه الإغريق اسم نهر الذهب واعتبروه نهراً مقدساً، ويوجد العديد من لوحات فسيفساء تبين نهر بردى ماراً بين منازل دمشق، بعض هذه اللوحات الفسيفسائية في الجامع الأموي بدمشق.. واسمه الحالي «بردى» مشتق من العربية ويدل على الماء البارد العذب. كما أن هنالك العديد من العائلات في بلاد الشام تحمل كنية «بردى».

القدسية
الإنسان القديم بطبعه كان يقدس المياه ويبني لأربابها أجمل المعابد، ويقولون: إن الإنسان منذ القديم كان يشعر بنشوة كلما شرب من مياه (بردى)، وإحساسه بلذة الارتواء ونعمة الهناء بشرب مائه العذب.. وروي عن مياه بردى فيما مضى أن لها خاصية ضد الجذام، فهو لا يصيب أهل دمشق، وإذا دخلها مجذوم غريب فشرب من مائها وقف به الجذام حيث بلغ… بل أكثر من ذلك فقد اعتبر نهراً مقدساً أقيم له المعابد والعبادات والطقوس… ومن أشهر تلك المعابد معبد «حدد» رب المطر الآرامي في دمشق، ومعبد نبع مياه عين الفيجة، وكانت هذه المعابد تزار بخشوع وورع وتقوى، وتقدم إليها الهدايا والنفائس والأضاحي شكراً على نعمتها وعطائها الخصب للإنسان..؟.
وهنالك العديد من المؤرخين الذين تحدثوا عن معبد نبع الفيجة، منهم صاحب كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» ابن فضل اللـه العمري، وقد تحدث عن معبد أو حصن (عزتا) وذكر أن مياهه تخرج من مكان تحت (حصن عزتا). وربما كان المبنى معبداً لأرباب المياه، تحوّل فيما بعد إلى (حصن) لأهمية موقعه ومبناه، فعرف بهذا الاسم.
وتصف صفحات التاريخ أن الرومان حين أقاموا هذا المعبد أقاموه فوق النبع ولا تزال آثاره باقية إلى يومنا هذا، وهو معروف اليوم باسم (حصن عزتا)، إضافة إلى الحجرة المقدسة التي كان يمنع الدخول إليها من عامة الشعب وهي مقتصره على الرهبان ورجال الدين آنذاك، وهي حجرة مقاسم المياه التي تخرج المياه من الفوهات المنتشرة في أسفلها وتندفع جارية نحو القناة الأثرية، التي كانت تحمل مياه نبع الفيجة إلى دمشق في القرون الأولى، وآثار هذه القناة لا تزال ماثلة في منطقة بسيمة من وادي بردى.
ويوصف المعبد الروماني الذي بني على نبع عين الفيجية، بأنه يتألف من قسم علوي فوق النبع في سفح جبل القلعة، يضم حجرة واحدة ما زالت بعض أجزائها ظاهرة خارج المبنى الذي أقيم فوق النبع. وقسم سفلي يتألف من حجرتين بينهما جدار منحن يضم محرابين، وقد أصبح هذا القسم ضمن مبنى النبع، ولم يعد يظهر منه إلا الجهة الغربية وجزء من الجدار المنحني ومحراب واحد.
تحول هذا المعبد فيما بعد وفي العصر البيزنطي إلى كنيسة، ثم حولت هذه الكنيسة في العصر العربي الإسلامي إلى حصن عرف باسم حصن عزتا.
والآن في حرم نبع الفيجة بقايا المعبد من قواعد، وأعمدة، ومذابح، وسواكف… إضافة إلى بقايا الحجرة المقدسة، كما ينتشر في أنحاء متفرقة في منطقة عين الفيجة العديد من آثار المعبد ومنها ما نقش عليه رسومات وكلمات باللغة اليونانية القديمة.

ربة الينبوع
تمثال ربة الينبوع هو الآن رمز لمياه بردى وعين الفيجة وقد اتخذته المؤسسة العامة لمياه عين الفيجة رمزاً لها، وتمثال ربة الينبوع يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد إلى عصر ماري الذهبي وهو من أجمل وأروع التماثيل النحتية الكبيرة التي تمثل الفن السوري في أوج عظمته. وهو يمثل امرأة «ربة» وهي رمز العطاء تحمل على جبهتها قرني ثور رمز الألوهة المعروف بالشرق القديم وقد ازدانت رقبتها بعقد ثقيل مؤلف من عدة طبقات وللتخفيف من وطأة ثقل العقد عمد الفنان إلى خلق توازن للجسم بشريط طويل يتدلى على الظهر، أما يداها فازدانت بثلاث أساور في كل معصم وقد نقش الفنان على الثوب صور سمك يسبح بين أمواج المياه ليدل على وجود الماء الذي تحمله الآلهة داخل وعاء كروي بين يديها، والتمثال يحوي في تجويفه أنبوباً من الماء يفتح في أوقات معينة.

غزل الشعراء
لنهر بردى عبر العصور والأيام قصص وحكايا فهو صديق الشعراء حيث نجد أن النهر يكثر ذكره في قصائدهم: فحسان بن ثابت قال:
يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل
أما جرير فقال:
لا ورد للقوم إذ لم يعرفوا بردى
اذا تجوب عن أعناقها السدف
وجاء ذكر بردى في شعر أبي عبدالله محمد الأصبهاني:
ومن بردى برد قلبي المشوق
فها أنا من حره مستجير
وجاء ذكر (بردى) في قول ذي القرنين أبي المطاع بن حمدان:
سقى اللـه أرض الغوطتين وأهلها
فلي بجنوب الغوطتين شجون
وما ذقت طعم الماء إلا استخفني
إلى بردى والنيربين حنين
ومن الشعراء الذين جاء ذكر بردى في أشعارهم أمير الشعراء أحمد شوقي في ذكرى قصف المستعمر الفرنسي لدمشق عام 1925م:
قال الرفاق وقد هبت خمائلها
الأرض دار لها الفيحـاء بستـان
جرى وصفق يلقانا بها بردى
كما تلقاك دون الخلد رضوان
دخلتها وحواشيها زمـردة
والشمس فوق لجين الماء عقيان
ومن الشعراء الذين ذكروا نهر بردى وتغنوا به في أشعارهم الشاعر جورج صيدح المولود في دمشق عام 1893م
حلمت أني قريب منك يا بردى
أبل قلبي كما بل الهشيم ندى
أما محمد مهدي الجواهري فقال:
بردى كأن بروده
رشفات معسول الرضاب
وبدوي الجبل قال:
يا بردى الشام وقد أقبلت
مي الفتاة الغادة الشاعرة

هي دمشق وهو بردى وبينهما تكمن أسرار الحياة.. لقد شكل بردى شريان الحياة فيها ودعم أساسات بنيانها فعلت شموخاً كقاسيونها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن