ثقافة وفن

أشهر المتوحدين في العالم.. صمت يملؤه الضجيج … من الصرع والتوحد إلى الإبداع فناً وبحثاً وموسيقا

| ديالا غنطوس

كثيرا ما نقول عن أنفسنا إننا متوحدون مع ذواتنا، نخلق عالمنا الخاص الذي لا نرجو لأحد اختراقه، نجول في أحلامنا بحرية، خالقين فيها ما لا نستطيع أن نفعله على أرض الواقع، نتصرف على سجيتنا بعالمنا المغلق، المتوحد معنا في كينونة سرية، نملك مفتاح ذلك المكان الغامض، ندخله برغبتنا ونقفل على صندوق أفكارنا بمفتاح ندسه في ركننا المهجور، فيكون عالمنا المتوحد لنا وحدنا فقط، نستمتع به ونلهو ونعود لنندمج مرغمين في عالم لا يشبهنا بشيء، إلا بفكرة كوننا خُلقنا رغماً عنا… متوحِّدين.

الأبعاد المرضية للتوحد
لكن في حقيقة الأمر إن مصطلح التوحُّد لا يطلق على تلك الحالة الخيالية التي نعيشها، بل يأخذ أبعاداً مرَضيَّة أكثر حدةً وخطراً، إذ يعاني مريض التوحُّد عدة مشكلاتٍ منها صعوبة التكلم بشكل طبيعي وتكرار الكلمات نفسها، إضافة لعدم القدرة على التواصل الاجتماعي مع الآخرين، وصعوبة التفاهم مع المصاب بالتوحد وتعليمه الصواب مِن الخطأ. فضلاً عن أعراض أخرى، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن مريض التوحد غير قادرٍ على تجاوز أزمته والتغلب على ذلك المتطفل الذي خلق له كوكباً معزولاً، بل تشهدُ القراءات والتجارب على أسماء العديد من المشاهير الذين أبدعوا في مجالاتهم واخترقوا جدار الصمت بالإبهار.
لكن على الرغم من تلك المعوقات التي تميِّز الشخص المتوحِّد سلبياً عن نظرائه الأصحاء، إلا أن كفة الميزان ترجَح وتتوازن عندما يثبت المتوحِّد تميزه وتفوقه بمجالات وطرق أخرى قد لا يصل إلى مستواها الأصحاء، نرى ذلك محققاً بأسماء كان لها وزنها على الصُّعد كافة، فنجد منهم فنانين مبدعين مثل الرسام الهولندي الشهير «فينسنت فان كوخ» أحد أهم رواد الفن الانطباعي والتصوير التشكيلي، ظهرت على فان كوخ اضطرابات التوحُّد منذ صغره، وترك الدراسة في سن الخامسة عشرة، ليتجه بعدها بعام إلى ممارسة هواية الرسم للتعبير عن مشاعره وعواطفه وانضم إلى إحدى شركات تجارة الأعمال الفنية وزاول مهنة الرسم، لكن عوارض التوحُّد بقيت تلاحقه وأصابته عدة نوبات كان أشهرها التي حدثت إثر مجادلة ساخنة دفعته لقطع جزء من أذنه بوساطة شفرة حلاقة، وبعدها عانى نوبة أخرى تخيل فيها أنه مسمََّم، وتلتها نوبة أقسى حاول فينسنت خلالها ابتلاع لوحاته الخاصة، وقام الأطباء بتشخيص حالته وقتذاك بأنه يعاني الصرع، إلى أن تفاقمت حالته عام 1890 وهو في السابعة والثلاثين من عمره حيث أطلق رصاصة في صدره رغبة منه بالانتحار وتوفي بعد يومين من محاولة إسعافه، تاركاً رسالة تحوي كلمات تقول «إن الحزن يدوم إلى الأبد»، لكن على الرغم من الاكتئاب الذي لفَّ حياته، رسم فينسنت فان كوخ أكثر من 800 لوحة زيتية خلال آخر خمس سنوات من عمره، بعضها من أكثر اللوحات شهرة وأغلاها ثمناً في العالم، وإلى يومنا هذا تُعرض أهم أعماله في متاحف عاصمة الفن باريس، كما في متحف فان كوخ الوطني في أمستردام بهولندا.
كذلك الأمر وفي مجال الفن أيضاً، نرى العبقري «ستيفن آلان سبيلبرغ» المخرج والكاتب والمنتج السينمائي الأميركي الذي حصدت أفلامه عدداً كبيراً من جوائز الأوسكار، على الرغم من معاناته من متلازمة وهي إحدى حالات الاضطراب والإعاقة الاجتماعية التي يعاني المُصابون بها صعوبات في التواصل والسلوك النمطي المتكرِّر، وتندرج ضمن طيف التوحد، لم يمنع كل ذلك سبيلبرغ من صعود سُلم النجاح وأن يصبح من أنجح مخرجي السينما في التاريخ، حيث قام بإخراج أربعة من بين أعظم عشرة أفلام حققت أعلى الإيرادات تاريخياً، منها فيلم «E. T.» وهو على رأس قائمة الأفلام في عائدات شباك التذاكر، كما فيلم الرعب الشهير «الفك المفترس Jaws»، والفيلم الشهير «Jurassic Park»، وظهر إبداع سبيلبرغ بتحويله لكتاب «اللون القرمزي» إلى فيلم سينمائي شهير. وتعدى نجاح سبيلبرغ إخراجياً إلى دخوله عالم الإنتاج السينمائي وامتلاكه شركة دريم ووركس للإنتاج التي مكنته من إنتاج أروع أفلام المغامرات والخيال العلمي.

نجاح المتوحدين في البحث العلمي
على حين ثبُت تميُّز المصابين بمرض التوحُّد من خلال نجاحهم في مجال البحث العلمي كما في سائر المجالات الأخرى، فكان منهم عباقرة مثل «ألبرت أينشتاين» العالم الغني عن التعريف الذي طوَّر نظرية النسبية، وقد عُرف عنه ميله للانعزال في سنوات عمره المبكرة، وفي شبابه كان يلقي محاضرات يصعُب على طلابه فهمها لدرجة أنه لُقبَ «الأستاذ ذو العقل الغائب»، كما كان يعاني مشكلات في التحدُّث، ولدى تشريح جثته بعد وفاته وَجد الأطباء دلالات على إصابته بمرض التوحُّد. وشاركه بذات الأعراض عالم الفيزياء والرياضيات «إسحق نيوتن»، حيث اتفق المؤرخون حول معاناته بدرجة ما من التوحُّد، حيث كان يجد صعوبة فائقة في التواصل والتأقلم مع الناس المحيطين به، واتَّصف بمزاجه العكر وقلة كلامه مع المقربين منه، ما دفعه للانهماك الدائم في عمله وأبحاثه إلى حد نسيانه تناول الطعام، ويُروى عنه أنه في حال خلوِّ إحدى محاضراته تماماً من تلامذته فإنه يستكمل إلقاء المحاضرة ولو كانت القاعة خاوية من الحاضرين، وتفاقمت حالة التوحًّد عند نيوتن عندما بلغ سن الخمسين حيث عانى الاكتئاب وما يسمى «بارانويا» أي جنون الارتياب.

انحراف القدرات العقلية
وقد يؤدي مرض التوحُّد لانحراف القدرات العقلية وتركُّزها في نواح نوعية محددة تجعل المصاب به يمتلك ذكاء فائقاً للطبيعة، تلك هي حالة الشاب الإنكليزي العبقري «دانييل تامت» الكاتب والعالم في مرض التوحُّد، عانى دانييل في السنوات المبكرة من حياته مرض التوحُّد ومن نوبات الصرع، قبل أن يتمكن مع تقدمه بالعمر من التغلب على ذلك عبر جلسات علاجية ومن خلال الدراسة والعمل الحثيث، ودفعته قوة الإرادة إلى تعلم 11 لغة مختلفة، وبفضل ذكائه الحاد تمكَّن من التفوق على الآلة الحاسبة بسرعة إجراء العمليات الحسابية، ولديه القدرة على تذكر الآلاف من أرقام الهواتف وبوسعه تحديد يوم الأسبوع الموافق لأي تاريخ تحدده له وإن كان يعود عشرات السنوات إلى الوراء، وأيضاً عنده مَلَكة تذكُّر ملامح وجه أي شخص سبق أن التقاه مع قدرته على تحديد زمان ومكان اللقاء، ولذلك تم إدراج اسم دانييل تامت ليكون واحداً من بين 50 عبقريٍاً حول العالم وصلوا إلى درجة خارقة من الذكاء يتفوقون بها على باقي البشر.
خلاصة القول: بعد مطالعتنا لكل تلك الحالات المتميزة وسواها من آلاف المرضى بالتوحُّد الذين تمكنوا من النجاح بمجالات محددة قاموا باختيارها، أنه من الأجدر بنا تغيير واقع نظرتنا حيال هؤلاء المتميزين بتكوينهم الذي خُلقوا فيه، فعينُ الصواب أن نحكم على أفعال الناس وإنجازاتهم وسلوكهم، لا على تمايزهم واختلافهم عنا، وهو الأمر الذي فرض عليهم ولم يختاروه طوعاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن