ثقافة وفن

مشروع الفرنك.. أول مشروع أهلي تكافلي

| شمس الدين العجلاني

عرفت سورية عبر تاريخها رجال دولة وسياسة تميزوا بمواهب واهتماماتٍ متعددة المواطن تعمل على تنمية المجتمع والأفراد لتساهم في بناء الوطن، ومن التاريخ القريب لمع فخري البارودي كزعيم وطني في الحياة السياسية السورية، حيث كلما بحث المرء في سيرته الذاتية اكتشف شخصية تميزت بكاريزما مثيرة للإعجاب والاهتمام، فخري البارودي كان سابقاً لعصره بحفنة طويلة من السنين.. فهو كما يقول المثل الدمشقي «مثل الزبدية الصيني منين ما نأرته برن…» كان ضابطاً متفوقاً في الجيش العربي السوري، موسيقياً له الفضل في إنشاء المعهد الموسيقي في دمشق، شاعراً، عضواً في البرلمان، كان رجل دولة أحب الوطن وبادله الوطن بحب كبير.

البارودي
هو فخري بن محمود بن محمد حسن بن محمد الظاهر الملقب بالبارودي، أحد الشخصيات الوطنية البارزة في تاريخ سورية الحديث، هو أديب وشاعر وسياسي وبرلماني وعسكري وموسيقي وصحفي، عاش في النصف الأول من القرن العشرين. كان جدَّه الأعلى ظاهر العمر حاكم صفد ومايليها، وامتد نفوذه إلى صيدا وعكا ومناطق واسعة من فلسطين ولبنان في الربع الثالث من القرن الثامن عشر. وقد تمرَّد على الدولة العثمانية إلى أن قتل غيلة. وعلى الأثر لجأ ابنه محمد ظاهر جد فخري البارودي إلى دمشق عمل في مصنع للبارود أورثه وأسرته لقب البارودي.
ولد فخري البارودي في دمشق، ونشأ في بيئة أرستقراطية يحيط به الدلال والترف. درس في «الخجا» وتعلم منها القرآن الكريم. ولما بلغ العاشرة من العمر أدخله والده المدرسة العازارية ثم المدرسة الريحانية. واستقر أخيراً في مكتب عنبر الثانوية الوحيدة في دمشق آنذاك. نال شهادته عام 1908م وهو العام الذي نشأت فيه جمعية الاتحاد والترقي بانقلابها على السلطان عبدالحميد الثاني. وهنا بدأت رحلة نضاله، فانضم إلى حلقة الشيخ طاهر الجزائري الوطنية، وصار يخطب في كل حفل داعياً إلى يقظة العرب وحريتهم. ثم أصدر جريدة شعبية ساخرة سماها «حطّ بالخُرْج» كان هدفها الأول نقد أوضاع البلاد وبعث الشعور القومي.
سافر البارودي عقب ذلك إلى فرنسا لمتابعة دراسته، غير أن والده غضب عليه وأرغمه على العودة إلى دمشق للإشراف على أراضيه الزراعية. وقد التحق البارودي بالثورة العربية الكبرى عام 1916م. وعيّنه الشريف حسين ضابطاً مرافقاً لابنه الملك فيصل عند دخوله إلى دمشق.
كان البارودي من أوائل المشاركين في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسورية، فشارك في معركة ميسلون (24 تموز1920م) ومارس نشاطاً كبيراً في التحريض على الثورة وكان يستقبل الثوار في بيته في حي القنوات، وينظّم الاجتماعات المؤيدة لهم، اعتقلته السلطات الفرنسية أكثر من مرة في سجن قلعة دمشق وحوكم ثم أُفرج عنه، ونفي خارج دمشق وهرب من نير المستعمر خارج سورية.. وفي عام 1936 قامت دمشق عن بكرة أبيها تناصر البارودي حين اعتقلته ونفته قوات الانتداب الفرنسي وأغلقت المحال وعطلت مؤسسات الدولة وعرف ذلك في تاريخنا باسم الإضراب الستيني.

البارودي السابق لعصره
كان فخري البارودي متعدد المواهب، يقف وراء كل مشروع وطني أو قومي، تملأ الحماسة صدره، فهو دائماً وطني متطرّف، ثائر ومجاهد، اشتهر بلقب «زعيم الشباب» ونظم عدداً من الأناشيد الوطنية والحماسية الذائعة الصّيت منها نشيد:
بــــلاد الـــــــعـــــــرب أوطـــانـــــــي
مــــــن الـــــــشــــــام لــــبــــغــــــدان
ومــن نــــــجــــــــد إلى يـــــــمـــــــنٍ
إلى مـــــــصـــــــر فــــتــــطـــــــوان
ومنها نشيد:
أنــت ســـــــــوريــــــة بـــــــــــلادي
أنـــــــــت عــــنـــــوان الــــكـــرامة
ونشيد:
ســـــوريــــــة يــــا ذات المــــجـــــد
والـــعــــزة في مـــاضـــي الــعــهد
سيرة حياة الزعيم الوطني فخري البارودي حافلة بالمشاريع الوطنية والقومية الريادية، ففي الثلاثينيات من القرن الماضي قاد البارودي مشاريع ريادية في الاقتصاد السوري، أولها مشروع «صنع في سورية» الهادف إلى تحفيز السوريين على شراء منتجاتهم الوطنية بما يعزز الاقتصاد ويطور الصناعة. كما أطلق «الحملة الوطنية لمكافحة التقليد»، حيث آمن أن الشعب السوري خلاق ومبدع ولا يجب أن يقلد الآخرين، وأنشأ «المكتب العربي للدعاية والنشر» لإذكاء روح الوطنية والدعاية للقضية العربية ودعا لمقاطعة المنتجات الأجنبية بكل أنواعها وبدأ بنفسه فقطع عهداً قال فيه: «أعاهد اللـه والشرف على ألا أصرف قرشاً في حاجة صادرة عن بلاد أجنبية ما دام منها في وطني العربي الكبير».
عمل البارودي على تأسيس نشاطاته الاقتصادية الريادية من خلال مشاركته في تأسيس الشركة الوطنية للشمينتو (الإسمنت) في دمّر عام 1930 الذي كلّف تأسيسه مبلغ 141 ألف ليرة من الذهب، وهدفت الشركة إلى التوجه بسورية نحو البناء الإسمنتي عوضا عن البناء الطيني وغيره، وكانت الشركة تغطي نحو 60% من احتياجات سورية من الشمينتو «الإسمنت» في ذلك الوقت. وبمشاركة البارودي أيضاً تأسست شركة الكونسروة الوطنية بدمشق برأسمال قدره 150 ألف ليرة ذهبية موزعة على ثلاثين ألف مكتتب سوري.
لقد حذر البارودي من مخاطر وأهوال الصهيونية، وانشأ عام 1936م «فرقة القمصان الحديدية للمقاومة الشعبية»، ويعاونه في ذلك عدد من الشباب المثقف، وكانت على غرار منظمات الفتوة العسكرية في العالم، وكان يقول عنها: أُريد لها أن تكون دعامة الجيش السوري المقبل، وكانت تدريبات هذه الفرقة تجري في شوارع دمشق وتقابل بالترحيب والهتاف. كما ساهم البارودي في دعم الكفاح الفلسطيني وأسهم في «أسبوع التسلح» مساهمة كبيرة ما أدى حينها لجمع أكثر من 25 مليون ليرة سورية وهو مبلغ جد ضخم في ذاك الزمن، وكان أول المتبرعين، وفي أيار عام 1945 عاد البارودي وارتدى ثياباً عسكرية، وساهم في تنظيم المتطوعين. ومنذ ذلك الوقت اعتبر عقيداً في الجيش، وهي رتبة اعترفت له بها القيادة العامة.

البارودي ومشروع الفرنك
من إبداعات البارودي البسيطة والكبيرة في دلالاتها وأهميتها، ولمساهمة ومشاركة كل أفراد المجتمع السوري في الدفاع عن سورية وحماية البلد ابتدع البارودي «مشروع الفرنك».
مشروع الفرنك أطلقه فخري البارودي عام 1934 وهو من المشاريع الكبيرة، يهدف إلى الدفاع عن القضية العربية وتسليح المواطنين لمقاومة الاستعمار، كان يحلم البارودي من خلال مشروعه إنشاء صندوق قومي يقوم على التبرعات الطوعية من المواطنين.
يتضمن هذا المشروع أن يدفع كل مواطن فرنكاً واحداً في الشهر «خمسة قروش»، حيث دعا سكان مدينتي دمشق وحلب البالغ عددهم آنذاك نحو 400 ألف شخص إلى التبرع بمبلغ فرنك واحد من أجل الإنفاق على الأغراض السياسية القريبة والبعيدة والتأثير في الرأي العام بكل الوسائل ولكن عند تنظيم هيكل هذا المشروع وتعيين موظفيه وفتح مكاتبه، تجلت ضحالة التنظيم إذ لم تساعده الهيئات الوطنية مساعدة جادة، وتوقف المشروع عام 1936م ولم يعد يسمع به أحد.
عرف البارودي بحبه للمرح والدعابة وكان منزله منتدى يلتقي فيه ظرفاء الشام، وهو واحد من ظرفاء الشام، ويروى عنه فكاهة حصلت معه أثناء جباية أموال مشروعه «مشروع الفرنك».
من المعروف عن البارودي عدم تعامله مع المؤسسات الأجنبية، وعندما أراد إيداع ما تم جمعه من تبرعات، أشير عليه بوضع هذه الأموال في أحد البنوك بدمشق، ولما كانت هذه البنوك آنذاك أجنبية فقد رفض البارودي التعامل معها ووضع التبرعات بها، وخطر له أن يضعها في صندوق حديدي.
كان بدمشق آنذاك أشهر المحلات لبيع الصناديق الحديدية لمثل هذه الغاية، محلات كوكش بسوق الحميدية، فذهب إليها وانتقى واحداً ثمنه سبع عصمليات (أي سبع ليرات ذهبية عثمانية) دفع منها لصاحب المحل عصملية واحدة، وقال له في كل شهر أدفع لك مثلها، فبادره صاحب المحل قائلاً، يا فخري بيك أنت زعيمنا ولو طلبت المحل كله لقدمته لك، ولكن تسمح لي بسؤال صغير؟ قال تفضل قال صاحب المحل من يشتري صندوق الحديد بالتقسيط ماذا سيضع فيه؟ وكانت من الفكاهات التي ضحكت لها دمشق في حينها.
ترى ونحن نمر في أزمتنا الحالية ومازالت سورية صامدة، وشعبها شعب خلاق ومبدع… ترى ألا نحتاج الآن إلى مشروع الليرة مثلاً؟ أو قاطعوا البضائع الأجنبية؟ أو تنشيط الصناعة السورية وتحفيز السوريين على شراء منتجاتهم الوطنية بما يعزز الاقتصاد ويطور الصناعة «صنع في سورية».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن