ثقافة وفن

التفاحة والقطة

| رشاد كامل

عندما نختار أي نوع من أنواع التفاح نشتري، البلدي، غولدن، أصفر، أو أحمر، لا يخطر ببالنا أن هذا التنوع في أنواع التفاح الذي يصل إلى 7500 نوع مستنبت، كله يعود إلى أصل واحد من آسيا ويقال إن أساسه من غابات كازاخستان….
إذاً الإنسان هو من قرر استنبات وزراعة الأنواع المحسنة، والملوّنة، وذات النكهات المختلفة بأسلوب أدى لظهور أنواع التفاح التي لم نعد نتذكر أصولها ولا شكلها.
في برنامجين منفصلين وثائقيين، تابعت أصول التفاح وأصول القط المنزلي، وتحدث فيهما العلماء مرارا وتكرارا عن أن بحوثهم تعتمد على تحقيقات جينية، أي إنهم يعتمدون بطريقة علمية على تأكيد ما الأصل وما المدخل والمعدّل والطفرة الجينية، واستطاعوا مثلا في حالة القطة وبمشاركة الآلاف من المتطوعين حول العالم أن يمسحوا الجينات لآلاف القطط من كل أنواعها ومن كل المناطق ابتداءً من المزابل إلى القط البري إلى القط المنزلي المدلل.
وكما مكنهم المسح الجيني للتفاح من متابعة تاريخه ووصلوا إلى أصوله الآسيوية، فالمسح الجيني للقطط أوصلهم إلى أصول أول قطة مدجّنة ولونها وشكلها، وللمفاجأة كانت من بلاد الشام. يبدو أننا أول من دجن القطط.
برنامج مسح الجينوم البشري انطلق منذ زمن طويل، ودراسة الأصول البشرية وخاصة بعدما انتهت عمليات تحليل الجينوم البشري، بدأت بجدية كبيرة، لأسباب كثيرة، أهمها، تحديد الأمراض الموروثة، وحركة الهجرات البشرية، وإمكانية تطوير الجنس البشري، الذي هو مشروع حقيقي، ويدعوه العلماء «مشروع البشر النسخة 2».
وكل ذلك غير مستغرب بالنسبة لي ونحن من استنبت وفرز أكثر من 7500 نوع من التفاح من نوع واحد، وحولنا القطة البرية التي كان شكلها مثل الفهد الصغير، إلى كتلة من الفراء الملون وبكل الألوان، من غير المستغرب أن نبدأ بتعديل الإنسان نفسه.
تعديل البشر لن يبدأ لاحقاً أي في المستقبل، بل هو عملياً بدأ من زمن الهجرات التي انطلقت منذ انحسار العصر الجليدي الأخير من 13 ألف سنة مضت، والذي تحركت فيه مجموعات البشر من إفريقيا والجزيرة العربية وآسيا، إلى مناطق وسط لم ينلها الجفاف أو الفيضان العظيم، أي عملياً تحركوا باتجاه بلاد النهرين وأوروبا لاحقا، والتحمت تلك المجموعات البشرية وتقاتلت وتزاوجت مع كل من كان في طريقها من شعوب أخرى ومن بينها الجنس الشبيه بالبشر من نوع النارتيندال الذي كان يقطن أوروبا، وكان يمتاز بلونه الأشقر والأبيض والذي ذاب تماما وانتهى عبر امتزاج هذين العرقين من البشر، وأدى ذلك إلى ظهور ألواننا الفاتحة بعدما كنا كلنا سوداً أفارقة… (حسب الدراسة للجينوم البشري).
لا يتوقف مشروع الجينوم البشري أمام الحقائق العلمية فقط، إنما هو يتحدى بالمطلق مفاهيم القوميات والأعراق الصافية، والتفوق العرقي، والعنصرية، والتاريخ، والأيديولوجيات القائمة على تلك المفاهيم.
فعندما يعرف أي منا أنه خلطة من عدة عروق، أظن عنصريته ستخف، وربما ستتغير نظرته لمفهوم القومية، وربما يتخلص منها ويبدأ بالتعامل مع الجغرافيا والمواطنة عوضاً عن التاريخ، إذ سيتوضح له من مسحة صغيرة من لعابه كل تاريخ سلالته وخلطته.
ومن غير المستغرب أن نواجه عنصرية جينية يمارسها البعض على البعض الآخر والذي من الممكن اعتباره من سلالات أساءت تاريخيا إلى هذا الشعب أو ذاك…
من المضحك بالنسبة لي، ردود فعلنا البسيطة التي فوراً تأخذ التطور والمعرفة وتحولها إلى مفاهيمنا نفسها، الطبقية والطائفية والقبلية، وحتى القومية البسيطة، وذلك متوقع، متوقع أن نخافها، ومتوقع أن نستغلها لمزيد من مذابحنا من هذا النوع….
والمضحك في الموضوع أننا بسبب جهلنا بالعلوم والمستقبل، لا نتخيل أن التحديات المستقبلية من الفرز الجيني، وتطوير بشر من نوع النسخة 2، هو ما يجب أن يقلقنا، لا أن نعرف إن كان أصلنا من هنا أو هناك…
إن صناعة الإنسان المتفوق، هي صناعة حقيقية، ستنتج قريبا، آليات لتعديل البشر جينياً، لنكون أقوى، أفضل، مقاومين للأمراض، أذكى، أكثر استجابة، حواسنا متطورة، وشكلنا أجمل…
ولمَ الاستغراب ألم ننتج من تفاحة بسيطة ذات الشكل القبيح 7500 نوع من التفاح، كل منها يستحق أن يرسم ويوضع في اللوحات….؟
ولكن أيضاً يجب ألا ننسى، أننا دجنا حيواناً برياً وجعلنا منه قطة…
ما يخافه الضالعون بالعلوم البشرية، والحقوقية والإنسانية، ليس اكتشاف أن العرب ليسوا عربا، أو أن السوريين خلطة من كل من استعمرهم على مدى 2500 سنة مضت، ولا أي مثال من هذا النوع على أي من الأمم، بل هم يخافون قصور التشريعات البشرية في جاهزيتها في التعامل مع الجنس المتفوق الحديث…. البشر النسخة 2…
فلا قوانين إلى الآن تحمي حقوق من لم ولن يتمكن من أن يعدل جيناته أو أن يكون معدلا في المستقبل، قوانين تعمل على تمكينه لذلك المسكين ذي النسخة القديمة بشريا وتعمل على حمايته من أمراض تفتك به حالياً ومستقبليا، ولا تؤثر في الأجناس المطورة، ولا قوانين مثلا تجبر الحكومات العالمية على محاربة تلك الأمراض إذا ما هم أنجزوا جيلاً كاملاً من مواطنيهم مقاوماً لها.
ولا يوجد إلى الآن قوانين ولا آليات لحماية الدول الفقيرة التي لن تكون لا هي ولا شعوبها من ضمن المحظوظين في عمليات التعديل الجيني والتطوير من أن يتم فرزها عنصريا بناء على جيناتها.
وإذا ما مزجنا علوم التطوير الجيني للبشر، وعلم ربطهم بالحوسبة المحمولة، وانترنت الأشياء…. فسننتج بشرا قادرين على الاطلاع على معلومات العالم كله بثانية، ويرتبطون بغيرهم من الآلات والبشر، بطريقة لا تحتاج فيها حتى إلى أدوات مما نعرفه اليوم، وحجم معارفهم وقدراتهم سيكون مذهلا، إضافة إلى جيناتهم المتفوقة…
يجب أن نجهز أنفسنا ومعتقداتنا الأيديولوجية الدينية والحزبية، لمستقبل قريب قادم، لن نعود فيه قادرين مثلا أن ندعي أن السوريين من أصول هجرات يمنية أتت إلى بلاد الرافدين، ربما نحن من أصول آسيوية، وربما نحن الأصل، لم يعد الأمر يحتاج إلى الكثير من مشعوذي التاريخ… لعابنا يكفي… ليكشف تاريخنا.. كله…
وإن لم نطور مفاهيم إنسانية تجمعنا كسوريين، غير تلك، التي بنيناها منذ مئة سنة، أو تلك التي اعتمدنا عليها من تأريخ إسلامي، أو ما قبل إسلامي….
ونطلق مفاهيم إيديولوجية سورية إنسانية مدنية، تؤمن أننا لسنا عرقا، بل أمة…
فأظن أننا سنصبح متل تفاحة كازاخستان….
ذكرى…
وربما لا يريدها أحد…

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن