ثقافة وفن

رئيس جامعة دمشق سابقاً يسأل: هل التقسيم هو الحل؟ … التقسيم سيسهل عملية إدارة الجامعة… لكن هناك خيارات أخرى

| أ. د. وائل معلا

مضى على تأسيس جامعة دمشق ما يقارب القرن تقريباً؛ فقد تأسست الجامعة السورية (جامعة دمشق حاليا) في عام 1923، وكانت تضمّ كليتي الطب والحقوق. أما الآن، وبعد ما يقارب المئة عام على إحداثها، أصبحت تضمّ في حرمها الرئيسي في دمشق ثماني عشرة كلية وخمسة معاهد عليا يدرس فيها مئتا ألف طالب وطالبة، وأصبح لها ثلاثة فروع خارجية في المحافظات المجاورة لدمشق (درعا والسويداء والقنيطرة) تضم 22 كلية ويزيد عدد طلابها على 40 ألف طالب وطالبة؛ كما أن فيها برنامجاً للتعليم المفتوح، وألحِقت بها مجموعة من المعاهد التقانية.
يجادل البعض منذ فترة ليست بالقصيرة في أن جامعة دمشق وقد باتت تضم هذا الحجم الكبير من الكليات والمعاهد، وهذا العدد الهائل من الطلاب، يجب أن تقسم إلى جامعتين أو ثلاث جامعات تخصصية، كأن تنقسم إلى جامعة للعلوم الطبية، وأخرى للعلوم الهندسية والعلوم الأساسية، وثالثة للعلوم الإنسانية، وذلك على نحو ما حدث في فرنسا في نهاية الستينيات من القرن الماضي. وبالفعل، فقد وافق مجلس الوزراء مؤخراً على مقترح وزارة التعليم العالي بتقسيم جامعة دمشق إلى جامعتين، جامعة دمشق للعلوم التطبيقية، وجامعة دمشق للعلوم الإنسانية. فهل الحل فعلاً يكمن في تقسيم هذه الجامعة العريقة؟ وهل هذا الحل كفيل برفع كفاءتها التعليمية والإدارية وزيادة إنتاجها من البحث العلمي وتحسين منزلتها العالمية؟؟
يوحي المشهد العالمي بعكس ذلك تماماً. فالحالات التي تم فيها تقسيم مؤسسة تعليمية قائمة، كجامعة دمشق، إلى عدة جامعات وفق تخصصات معينة كما حدث في فرنسا، حالات نادرة جداً؛ بل على العكس تماماً، فقد بدأت الحكومة الفرنسية باتباع سياسة إعادة ضم الجامعات وتشكيل ما أطلق عليه «أقطاب الدراسات العليا والبحث العلمي» PRESS، وذلك بعد التصنيف غير المرضي الذي حصلت عليه الجامعات الفرنسية من خلال نظام تصنيف شانغهاي ومعظم أنظمة تصنيف الجامعات العالمية، والسبب في تصنيفها المتدني هذا أنها جامعات لا تشتمل على جميع التخصصات، ما تميّز البيئة العالمية حالياً المؤسسات التعليمية الأكثر جضوراً على المستوى العالمي من حيث تنوّع التخصصات العلمية فيها وغزارة البحث العلمي الذي تنتجه ونوعيته. وذلك كله لا يتحقق بالتفكك والانعزال وإنما ببناء التحالفات والشراكات الإستراتيجية التي تؤدي إلى تكامل الجهود والقدرات التعليمية والبحثية وليس هدرها وبعثرتها.
ولو نظرنا إلى المشهد العالمي بتمعن لوجدنا أنه شاعت خلال العقود الأخيرة ظاهرة اندماج بعض مؤسسات التعليم العالي كالجامعات أو الكليات أو المعاهد مع مؤسسات أخرى لأسباب عدة ومتنوّعة، وليس تفكك تلك المؤسسات وانفصال بعضها وانعزاله عن البعض الآخر. وقد صنّف الباحثون في سياسات التعليم العالي عمليات الاندماج هذه إلى ثلاثة أنواع رئيسية، الأول اندماج من نوع «ضعيف- ضعيف»، أي اندماج مؤسسة ضعيفة مع مؤسسة ضعيفة أخرى لتشكيل تحالف أقوى تكون له حصة أكبر من السوق ومكانة علمية أفضل. والصنف الثاني من نوع «قوي- ضعيف»، أي اندماج مؤسسة ضعيفة مع مؤسسة قوية أو مرموقة وهو أشبه ما يكون باستيلاء المؤسسة القوية على المؤسسة الضعيفة وذلك لإنقاذ المؤسسة الضعيفة من وضع مالي صعب نتيجة انخفاض الطلب عليها، أو لمشاكل تتعلق بفشل برامجها في الحصول على الاعتماد اللازم وغير ذلك. والصنف الثالث هو من نوع «قوي- قوي» أي اندماج مؤسسة تعليمية مرموقة مع مؤسسة تعليمية مرموقة أخرى. وهو تحالف إستراتيجي بين المؤسستين بغرض تحسين ميزاتها التنافسية. وأشهر أنواع هذا الاندماج ذاك الذي حدث بين جامعة مانشستر- فيكتوريا (VUM) وجامعة مانشستر للعلوم والتقانة (UMIST). وقد بني هذا الاندماج على رؤية إستراتيجية مفادها أن البيئة الخارجية تفضِّل مؤسسات كبيرة ذات طيف واسع ومستوى عميق من التخصّصات والبرامج الدراسية والبحث العلمي. وقد نتج عن هذا التحالف تشكيل جامعة جديدة في مانشستر تضم خمسة وثلاثين ألف طالب تطمح بوضوح لأن تصبح من بين أفضل جامعات العالم في البحث العلمي، وأن تكسر ما يسمى «المثلث الذهبي» بين جامعات لندن وأكسفورد وكامبردج وهي التي تستقطب في بريطانيا الحصة الأكبر من منح البحث العلمي والجوائز العالمية.
ولا يختلف المشهد في آسيا كثيراً عن المشهد الأوروبي. ففي الصين تركزت الجهود في الفترة الواقعة بين عامي 1990 و1998 على ضمّ الجامعات التي تدرّس كلّ منها تخصصات دقيقة بعضها إلى البعض الآخر، وتشكيل جامعات جديدة متنوعة الاختصاصات؛ حيث ضُمّت في تلك الفترة وحدها 207 جامعات لتشكل 84 جامعة. وكذلك قامت الحكومة اليابانية في عام 2001، وكجزء من برنامج إصلاح بنيوي للجامعات اليابانية، بضم عشر جامعات «أحادية الكلية» مع جامعات متعددة الاختصاصات وخفض عدد الجامعات الوطنية من 99 إلى 88 جامعة.
بناء على ما سبق نرى أن المشهد العالمي يميل إلى تفضيل المؤسسات التعليمية ذات الاختصاصات المتنوعة لأنها تكون عادة أكثر حضورا على المستوى العالمي وأكثر إنتاجا للبحث العلمي وخاصة في هذه العصر الذي شاعت فيه البحوث المتعددة الاختصاصات.
أما بالنسبة للتحديات التي تواجهها الجامعات الحكومية في بلدنا، وبالأخص جامعة دمشق، فإن أفضل طريقة لمواجهتها لا تكون بتقسيمها إلى جامعات أصغر، لأن ذلك يتناقض مع التوجهات العالمية ومصلحة الجامعات نفسها ويضعفها بدل أن يقوّيها. وخاصة أن التحدي الرئيسي الذي تعانيه كليات جامعة دمشق هو اكتظاظها بأعداد كبيرة جداً من الطلاب (فقد تجاوز عدد طلاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية على سبيل المثال الخمسين ألف طالب وطالبة)، وإن تقسيم الجامعة إلى جامعتين أو أكثر لن يخفف الضغط الطلابي عن هذه الكليات ما لم يواكب ذلك إحداث كليات جديدة.
مما لاشك فيه أن تقسيم جامعة دمشق إلى جامعتين سيسهّل من عملية إدارتها، لكن هناك خيارات أخرى يمكن اتخاذها من شأنها أن تخفف من أعداد الطلاب والكادر الإداري في الجامعة، ومن أعداد الكليات التابعة لها، وأهمها تحويل الفروع الخارجية للجامعة (وخاصة فرعي درعا والسويداء والذي مضى على افتتاحهما أكثر من عشر سنوات) إلى جامعات مستقلة بعد توفير مستلزمات ذلك من كادر تدريسي وبنى تحتية وغيرها. وإذا نظرنا إلى المشهد الإقليمي نجد أن هذه النهج هو النهج الذي سارت عليه العديد من الجامعات إقليمياً وخاصة تلك المكتظة بالطلاب كالجامعات المصرية على سبيل المثال. وإن أحداً لم يقترح تقسيم جامعة القاهرة أو عين شمس أو الإسكندرية التي تضم كل منها مئات الآلاف من الطلاب إلى جامعتين أو أكثر، بل إن الفروع التي افتتحتها هذه الجامعات في المدن الأخرى تحولت مع مرور الوقت إلى جامعات مستقلة. فجامعة بني سويف أحدثت كفرع لجامعة القاهرة عام 1981، ثم تحولت إلى جامعة مستقلة عام 2005. وجامعة الزقازيق كانت فرعا تابعا لجامعة عين شمس أحدث عام 1969، تم تحول إلى جامعة مستقلة عام 1974. وكذلك هي الحال لجامعة دمنهور التي كانت فرعا لجامعة الإسكندرية ثم تحولت إلى جامعة مستقلة عام 2010.
وهناك إجراءات تندرج ضمن التطوير المؤسساتي يمكن أن تقترحها الجامعة لتخفيف الضغط الطلابي الكبير عن بعض كلياتها، ومنها تأسيس كليات جديدة ككلية علوم الأرض التي تضم قسمي الجغرافيا (من كلية الآداب)، والجيولوجيا (من كلية العلوم) والذي من شأنه تخفيف الضغط عن هاتين الكليتين، وتأسيس كلية اللغات الأجنبية التي يمكن أن تضم أقسام اللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية واليابانية والروسية والتي من شأنها أن تخفف من أعداد الطلاب في أقسام كلية الآداب وتسهل في عملية إدارتها. وهذه المقترحات كانت قيد الدرس في الجامعة في الفترة التي سبقت الأزمة الحالية. كذلك فقد تقدمت جامعة دمشق عام 2010 بمقترح يقضي بإحداث جامعة دمشق الثانية على أن تكون نواتها كلية العلوم السياسية في منطقة التل وقد أحالت رئاسة مجلس الوزراء هذا المقترح إلى لجنة التخطيط الإقليمي لدراسة إمكانية لحظ تجمع تعليمي في منطقة التل ضمن المخطط التنظيمي للمنطقة. وكانت وجهة نظر جامعة دمشق في ذلك الحين أن الجامعة موجودة بالفعل بالمنطقة بوجود إحدى كلياتها (العلوم الأساسية) والتي يمكن أن تشكل نواة للجامعة الجديدة.
أردنا مما سبق أن نوضح أن قرار تقسيم جامعة دمشق العريقة إلى جامعتين أو أكثر هو قرار خطر على مستوى التخطيط الإستراتيجي لقطاع التعليم العالي في سورية، ويجب بالتالي أن يستوفي حقّه كاملاً من الدراسة العميقة، ومن التقييم الكامل لآثاره المتعددة على مختلف فعاليات الجامعة الإدارية والتعليمية والبحثية، وكذلك على منزلتها الإقليمية والعالمية. كما لا بد من دراسة متأنية لكل الخيارات الأخرى المتوافرة لتحقيق الأهداف المرجوة من عملية التقسيم، وتقييمها تقييماً دقيقاً لاتخاذ القرار الأنسب لجامعة من وزن جامعة دمشق وتاريخها، وفي الظرف التاريخي الدقيق الذي تمرّ به سورية وما يترتّب على ذلك من تحدّيات كبيرة على منظومة التعليم العالي أن تتصدى لها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن