اقتصاد

الواقعية الاقتصادية

| المحرر الاقتصادي

كان ترشيد المستوردات خياراً بحكم الظرف الراهن لتخفيف الضغط على طلب القطع الأجنبي في السوق المحلية، وبالتالي تخفيف الضغط على قيمة الليرة، إضافة إلى تحديد أولويات استخدام احتياطيات القطع الأجنبي في مصرف سورية المركزي (نحو 21 مليار دولار أميركي في العام 2010 إضافة إلى 25.8 طناً ذهباً) بما يتناسب مع متطلبات الإنفاق لمواجهة ظروف الحرب.
من حيث المبدأ، نستشف منطقية هذا القرار، قياساً إلى القوانين الاقتصادية، بشكل عام، لكن نجاحه مشروط بتوافر بيئة اقتصادية مناسبة، بمعنى إمكانية الحكومة للدفاع عن قرارها هذا بقدرتها على تطبيقه على أرض الواقع، وإلا سوف تخالف النتائج ما هو مفترض بموجب القوانين الاقتصادية، والمتوقع من القرار.
وهذا ما حدث في الاقتصاد خلال السنوات الماضية، ولا يزال يحدث يومياً، إذ عجزت الحكومة عن الدفاع عن قرارها، خارج إطار الموافقات والقرارات والآليات وتعديلاتها على إجازات الاستيراد، ما أفرغ الترشيد من مفهومه، وحوّله إلى عبء اقتصادي دفع تكلفته المواطن، لأن الضرر وقع.
ومن مؤشرات الواقع نتحدث، المهربات تغزو الأسواق، وكل ما منع استيراده، دخل البلد عبر التهريب، فتحول الترشيد إلى نعمة للمهربين والفاسدين، ونقمة على الاقتصاد والمواطن، من حيث التطبيق.
الحكومة في مواجهة هذا الواقع انشغلت بالتوعد والترهيب الإعلامي (عبر التصريحات المتكررة) بضرورة مكافحة التهريب وملاحقة المهربين، مع إصرارها على الترشيد، وتضييقه من وقت لآخر، حرصاً على عدم تفاقم الطلب على الدولار، علماً بأن المهربات تم تمويلها من السوق السوداء في معظمها، وبالتالي تحملت الليرة تبعات التهريب، معها معدل لتضخم وتراجع القدرة الشرائية للمواطن، إلا أن ما لم تفصح عنه الحكومة ولا في أي مناسبة، هو مقدار الكتلة النقدية التي خسرتها الخزينة جراء عدم تقاضي ضرائب ورسوم جمركية من البضاعة التي دخلت إلى الاقتصاد عبر التهريب، فيما لو دخلت عبر قنوات الاستيراد النظامية!
بالطبع المبالغ من شأنها تقليص العجز الموجود في الميزان التجاري بنسب لا يستهان بها، وتقلص من حجم التمويل بالعجز، وهذا آثاره موجودة أيضاً في قيمة الليرة بصورة أساسية.
في المحصلة، فشلت سياسة الترشيد، وكبدت الخزينة والليرة والمواطن وبالنتيجة الاقتصاد خسائر فادحة، فلماذا الإصرار عليها إذاً، ما دامت السوق بحاجة إلى مواد، وهناك طلب واضح عليها، ولا تتوافر إمكانية لضبط التهريب والأسواق؟
بحكم الواقع، على الحكومة التراجع عما ندعوه مجازاً «المثالية الاقتصادية» بمعنى اتخاذ قرارات على ما يفترض أن يكون، بعيداً عما هو واقع فعلاً، واقتناعها بـ«الواقعية الاقتصادية» لتجنب الخسائر وحماية ما تبقى من قدرة المواطن الشرائية، وعليه، فتح باب الاستيراد وفق الأنظمة والقوانين المعمول فيها، وفرض رسوم جمركية مرتفعة على المواد التي ترغب بالحد منها، ومنح إعفاءات وتسهيلات لمواد ومستلزمات الإنتاج، ريثما تدور عجلة الإنتاج، ويصبح بإمكاننا الحديث عن منتج محلي يحل محل بعض المستوردات، إضافة إلى ضرورة توسيع دائرة المصالحات على المهربات الموجودة في السوق، وفتح المجال للمنافسة بين المستوردين، بحيث تركز الجمارك عملها على الحدود أكثر من الداخل، فتقمع بفعالية محاولات التهريب، والتي سوف تقل بشكل واضح نظراً لتوافر البديل المستورد.
هذا الكلام ليس جديداً، بل تم طرحه مرات عديدة مع إعلان تطبيق سياسة الترشيد، إلا أن الواقع اليوم أقوى من كل التحليلات والتكهنات، فالخزينة تخسر يومياً الملايين بسبب اقتحام المهربات أسواقنا، وتمدد نفوذ المهربين في كل اتجاه، لكن الهموم والهواجس التي جمعت أمس وزراء الاقتصاد والمالية والتموين ومدير الجمارك مع التجار والمستوردين، تبرر لنا إعادة طرح الموضوع من جديد، رأفة بالخزينة وبالاقتصاد.. فمادام لدينا مشكلة بالإيرادات، فها هو المال العام ضائع ويصرف في غير مكانه لرفاهية المهربين.
ولا ننسى التذكير بضرورة زيادة الدخل، لكونه العلاج الوحيد في أوقات الركود، مادام يمكن تأمين جزء من الموارد.. وهنا تذكروا أن التحجج بالتضخم لم يعد يشفع في السوق، فهناك سياسة نقدية، هدفها الأول ضبط التضخم والأسعار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن