قضايا وآراء

في الجنوب برودة خادعة

| عبد المنعم علي عيسى 

تشير العلاقة التركية مع الغرب إلى حالة توتر قصوى وهي في واجهتها تبدو كأنها خلاف على الإرهاب أو على طريقة التعاطي معه، فأردوغان سبق له أن اتهم الأميركان في أيلول من العام الماضي بدعم الإرهاب كما ذهب أيضاً قبل أيام 3/3 إلى اتهام ألمانيا بدعمه قبل أن يقف مولود جاويش أوغلو في عقر دار هذه الأخيرة (هامبورغ 7/3) ويعلن «أن أوروبا تدعم كل أنواع الإرهاب ضد تركيا» على الرغم من أن هذي الخطوة الأخيرة تحمل في طياتها موجبات داخلية، كما يبدو فوزير الخارجية التركي كان يتحدث إلى الأتراك المقيمين في ألمانيا في محاولة لشد عصبهم وضمان تأييدهم في الاستفتاء الذي سيجري في نيسان المقبل والذي يهدف إلى نقل النظام القائم في تركيا إلى نظام رئاسي ما يوحي بأن أنقرة ترى أن التوازن الداخلي القائم فيما يخص ذلك الاستفتاء هو توازن هش أو ضعيف، الأمر الذي استدعى بالضرورة حشد أصوات الخارج.
على حين يقبع خلف تلك الواجهة العديد من الخلافات المتراكمة ولربما تشكل السياسات التركية تجاه كل من سورية والعراق أحد أهم تلك الخلافات ولذا فإنه من المرجح أن تتصاعد هذي الأخيرة انطلاقاً من إصرار تركي واضح على ممارسة تلك السياسات من دون أي تعديل يذكر عليها، وهو ما يتبدى جلياً في الخلافات المستمرة تجاه ما يجري في الشمال السوري سواء أكان في منبج أم في التحضيرات الجارية لمعركة تحرير الرقة المفترضة.
وفي هذه الأخيرة تحديداً يمكن تلمس حالة «الشد والارتخاء» ما بين واشنطن وأنقرة بسهولة، ففي أقل من 24 ساعة كانت هناك تصريحات صادرة عن مسؤولين أميركان تؤكد وجوب مشاركة أنقرة في معركة تحرير الرقة وبعد ساعات قليلة كانت تظهر بطارية المدفعية الأميركية عيار 155 مم للمرة الأولى 7/3 في محيط مدينة الرقة، الأمر الذي يقرأ على أنه تلويح أميركي لأنقرة بإمكان الاستغناء عن مشاركتها والاعتماد كلياً على حليف آخر هو قوات سورية الديمقراطية.
من الواضح أن أنقرة تسعى إلى تحقيق توافق روسي- أميركي أقله فيما يخص دورها في سورية، الأمر الذي يمكنها- إذا حصل- من تحقيق مكاسب على الأرض ولربما كانت زيارة أردوغان الأخيرة لموسكو 10/3 تصب في هذا الاتجاه انطلاقاً من عنوانها العريض الذي حمله هذا الأخير على رأسه وكتفيه والذي يختصر بـ«مصير الرئيس السوري» فهذا الأمر بات هماً أوحد بعدما تأكد أن الأزمة السورية قد تهادت أو أنها اتخذت وضعية «حركة النهر العذب قبيل لقائه بمياه البحار المالحة» وهو ما أكده وزير الخارجية المصري سامح شكري في لقائه مع جريدة الوطن المصرية المنشور 10/3 عندما قال: «إن الأزمة السورية مقبلة على حل سياسي وإن جميع الدول الفاعلة فيها قد تخلت عن الحل العسكري» وإذا ما كان هذا الكلام دقيقاً- وهو على الأرجح كذلك، فإنه لا يعود هناك من معنى لتصريح قائد قوات التحالف الأميركي جوزيف فوتيل الذي أعلن 9/3 أن قواته لن تغادر سورية حتى بعد هزيمة داعش وهي سوف تبقى فيها فترة طويلة.
باختصار يبدو المشهد في الشمال السوري بالغ التعقيد وعلى الرغم من الجهود (الأميركية والروسية) المبذولة لمنع أي صدام تركي- كردي أو حتى تركي- سوري فإنها تظل غير كافية أو لا تشكل ضمانة أكيدة لعدم حصول هذين الصدامين خصوصاً إذا ما خرجت الأمور عن الضوابط الروسية التي تحكم التحركات التركية حتى الآن.
وعلى الرغم من ظهور الشمال السوري الذي يبدو فيه أقرب ما يكون إلى كتلة من اللهب القادرة على تصدير الفائض من نارها إلى المحيط فإن البرودة التي يتسم بها الجنوب (السوري) تبدو برودة خادعة أو أنها تستكمل شروطها اللازمة للانفجار ولم تكن مصادفة أن يعمد بنيامين نتنياهو إلى التحذير من «الإرهاب الشيعي» من على المنبر الروسي 9/3 فتلّ أبيب ومنذ فترة لا تزال تحاول تصدير مخاوفها الأمنية تجاه ما يجري في الجنوب السوري، وهي تتأتى- بحسب تل أبيب- بسبب دعوة الحكومة السورية للنازحين الذين غادروا منازلهم في قرى القنيطرة والجولان بالعودة إليها، وتل أبيب تسوق هنا أن تلك العودة سوف تستغل لإرسال عناصر من حزب الله والحرس الثوري الإيراني إلى تلك المناطق، الأمر الذي يجعل من هؤلاء في مواجهة مباشرة معها. وعلى الرغم من الطمأنات الروسية في هذا السياق فإن تل أبيب- على الأرجح- لم تأخذ ولن تأخذ- بتلك الطمأنات قياساً إلى التجارب السابقة فهي اعتادت في حالات كهذه «أن تقلع شوكها بيديها» ولو أدى الأمر إلى توتر مع المحيط والعالم انطلاقاً من النظرية الأساس التي يقوم عليها الأمن القومي الإسرائيلي ومفادها أن العمق الإسرائيلي ببعديه الجغرافي والبشري لا يحتمل انتظار أن تتبلور الأحداث لكي يبنى على الشيء مقتضاه ولذا فإن من حق تل أبيب شن أي حرب استباقية على أي هدف تراه يهدد – أو يمس- الأمن الإسرائيلي ولو أدى ذلك إلى حرب شاملة، وعليه فإن الأمور- على الأرجح- تتجه أو تتحضر لقيام إسرائيل بشن حرب عدوانية على مواقع حزب الله في لبنان ولربما في سورية أيضاً، وهذا الترجيح من المؤكد أن قيادة حزب الله تتبناه وإلا لما صدرت تلك التهديدات التي تؤكد أن الحزب يستهدف خزانات الأمونيا في مدينة حيفا الأمر الذي يعني كارثة نووية في نتائجها، فهذي الأخيرة تحتوي على عشرة آلاف طن من الأمونيا واستهدافها يشكل هزة كبرى لا طاقة للعمق الإسرائيلي على تحملها، والتهديد بالاستهداف هنا هو أشبه ما يكون بقرار إجراء مناورات عسكرية تهدف عادة إلى إجبار الخصم على التخلي عن فكرة الحرب أو التصعيد، وفي هذا السياق كان لافتاً أن الدوائر الإسرائيلية ذات الاختصاص كانت قد عملت في أعقاب انتهاء زيارة نتنياهو لموسكو على تسريب أخبار تقول إن الرئيس الروسي قد وافق على استهداف إسرائيل لمواقع حزب الله و«الوجود الإيراني في سورية» الأمر الذي اضطر موسكو إلى نفي تلك الأخبار جملة وتفصيلاً، ومن الناحية المنطقية فإن تلك الأخبار يتأكد عدم مصداقيتها عبر ربطها ما بين استهداف حزب الله وبين استهداف الوجود الإيراني في سورية فهذا الأخير لا يبدو منطقياً أو بمعنى لا مصلحة لموسكو فيه، انطلاقاً من أن الثقل الإيراني في سورية هو في الآن ذاته ترجيح لكفة موسكو على كفة التحالف الأميركي داخل الأراضي السورية، ولا يمكن لهذي الأخيرة التضحية به في ظل التوازنات القائمة حالياً مهما بلغت درجة التفاهم التي يحكى عنها بين الروس والغرب فيما يخص «الوجود الإيراني في سورية»، وفي مطلق الأحوال فإن موسكو قد- نقول قد- تغض الطرف إذا ما تم استهداف هذا الوجود من الغرب أو الأميركان تحديداً إلا أن الأمر لا يستوي إذا ما كانت تل أبيب هي القائمة بالفعل فالجيوبولتيك السوري الآن هو ضبط زلزال إقليمي لا قبل لإسرائيل بتحمل تداعياته ولو كانت تحظى بدعم أميركي مطلق إن لم يكن هناك تدخل عسكري أميركي مباشر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن